مات بشير… هل “انقرض” الموارنة؟

أنطوني جعجع

ماذا لو بقي بشير الجميل حياً؟

سؤال نطرحه على المستوى المسيحي في مكان والوطني في مكان آخر، علّنا نفهم ما جرى بعد اغتياله وما يجري بين الحين والآخر هنا وهناك…

لم يكن بشير رجلاً عادياً ولم ينشأ في بيئة عادية أو يتعامل مع ظروف عادية، ولم يكن صاحب حظ بقدر ما كان صاحب كاريزما وطموح غير عادي، ولم يكن قبل كل شيء وريث أبيه في قيادة حزب “الكتائب” مع وجود الابن البكر أمين القابض على رهان الوالد ورضاه.

عندما أطل بشيرا في محاضرات متفرقة في الأشرفية وغيرها من المناطق، لم يأخذه أحد على كثير من الجد، في وقت كان نجم أخيه هو الساطع على كل المستويات الحزبية والسياسية، لكن شيئاً في شخصية هذا الفتى كان له وقع آخر… انه السحر.

وليس من قبيل المصادفة أن يتمكن هذا الشاب ومن وراء المتاريس والألغام الداخلية والخارجية، من أن يضاهي كميل شمعون في شعبيته وبيار الجميل في هيبته وبكركي في دورها، وأن يتحول من مجرد قائد فرقة الى قائد لأقوى ميليشيا مسيحية عرفها لبنان في تاريخه القديم والحديث، والى المرجع الذي يستنفر الأسطول الأميركي كلما قرر مغادرة لبنان في زيارة خارحية، خوفاً من الاستخبارات السورية والفلسطينية والسوفياتية التي كانت تتربص به على مدى الدقائق.

ننطلق من هذا العرض لنصل الى الموارنة ما بعد بشير، ونضيء على الشخصيات التي ظهرت بعده سواء من خلال الحرب أو من خلال السياسة أو من خلال الصدفة.

لم يتمكن أحد من أركان “القوات اللبنانية” من ملء فراغ بشير ومنهم فادي افرام وفؤاد أبو ناضر، حتى سمير جعجع الذي كان يطلق على نفسه لقب “سمير الأول” لا “بشير الثاني”، وحتى أمين الجميل الذي حاول عبثاً استقطاب شعبية أخيه لا بل التفوق عليه.

ولعل العلة الأخطر في المجتمع المسيحي عموماً والماروني خصوصاً، أن أحداً لا يريد سحب بشير الجميل من الصورة، فالشعب يريد السير خلف من يشبهه والقادة يريدون استنساخ ما كان عليه، فلا الشعب حاز ما أراد ولا القادة تقمصوا الرجل لا من قربب ولا من بعيد.

ولعل العلة الأكبر أيضاً، أن الرهان المسيحي العام كان، سواء عن حق أو باطل، على الجنرال ميشال عون الذي تمكن بمساره الشعبوي والغوغائي أن يقنع القسم الأكبر من “البشيريين” بأنه النسخة الصحيحة والوحيدة عن شخصية “الباش” والخليفة القادر على اعادة الرجل الى الحياة.

كل ذلك قبل أن يدرك “البشيريون” أن من راهنوا عليه لم يكن أكثر من عاشق للسلطة أو في أفضل الأحوال أكثر من “بطل هوائي” أخرج لبنان من “دولة” بشير، وأخرج معظم المسيحيين من حلم “الرئيس الصغير”.

واذا اختار عون ورقة بشير كي يشق طريقه الى الحكم، فإن سمير جعجع حاول البحث عن حيثية خاصة لا تكون بشيراً ولا تكون عكسه، فلا تفوق في هذا ولا تكرس في ذاك، فانشغل أولاً بلعنة السلطة الداخلية التي جَّرت عليه عداوات وحملات وتحديات لا تحصى، ودفع ثانياً ثمن الموجة الشعبية المسيحية شبه الشاملة التي لم تكن لترضى بغير السير وراء بشيرٍ آخر مهما حاول الخلفاء سواء صادقين أو مواربين الايحاء بأنهم جزء من “الزمن المسيحي الجميل”.

وما ينطبق على عون وجعجع، ينطبق أيضاً على الراحل ايلي حبيقة الذي كان يؤمن بأن الفضل الأكبر في صعود بشير يعود الى جدارته الأمنية والمخابراتية والاستراتيجية، وأن بشيراً ما كان ليصل الى ما وصل اليه لولا فريق عمل أمني وسياسي وديبلوماسي ضم النخب المسيحية بكل مذاهبها، اضافة الى ظروف إقليمية ودولية صبّت جميعها في مصلحته.

ولعل ما نعانيه اليوم من تخبط على مستوى الاستحقاق الرئاسي المقبل، يعود في قسم كبير منه الى “شبح” بشير الذي لا يكاد يطل في ذكرى أو محطة أو مناسبة حتى يتحول “الناخب القوي” الى معترض على أي شخصية تشبه حتى القليل من بشير، ويتحول “المرشح القوي” الى مرشح عادي، ومرشح الصدفة الى مرشح دخيل، والمرشحون الآخرون الى مجرد أسماء غير مكتملة المواصفات أو غير جديرة بقيادة الموارنة والمسيحيين قبل قيادة جميع اللبنانيين.

وما يثير الغرابة، أن العلاقة التي نسجت بين بشير واسرائيل لا تشكل أي احراج لدى ميشال عون الذي يدّعي أن روح بشير تسكنه، ولا لدى جبران باسيل الذي يعتبر نفسه “تكملة” لهيبة الرجل، ولا لدى جعجع الذي يتظلل وقع بشير في مناسبات شد العصب والتحديات.

وقد حاول سامي الجميل وقبله شقيقه الراحل بيار أن يطلا على الناس كما كان يفعل عمهما لا كما كان يفعل والدهما، لاقتناع ضمني لديهما بأن أمين الجميل لا يملك من السحر ما يجذب ولا من الشعبية ما يبهر.

والواقع أن أحداً من هؤلاء لم يتمكن من مصادرة ارث بشير، لا في الحرب ولا في السلم ولا في الخيارات ولا في الاستراتيجبات ولا في المواقف التي تجعل العالم مقتنعاً بوجود شخصية مسيحية يمكن الرهان عليها أو الركون اليها كما استطاع بشير أن يفعل.

وليس من باب المصادفة أن يتحول البطريرك الوديع مار نصر الله بطرس صفير الى بطل ماروني، على غرار يوسف كرم، بعدما يئس المسيحيون من احتمال ظهور زعيم سياسي قادر أو صالح لقيادة الرعية نحو شواطئ الأمان.

ولا نخطئ أبداً اذا ذهبنا في القراءة بعيداً الى حد القول ان بشيراً الميت قضى على كل هؤلاء وهو في قبره، عندما حاولوا تقليده وسط حقل ألغام استغلته سوريا وحلفاؤها، في شكل فجّر “حروب الأخوة” التي جردت المسيحيين تدريجاً من سلاحهم وأرسلت عون الى المنفى، وجعجع الى السجن، وحبيقة الى حتفه، والجميل الى العزلة والانكفاء، والمجتمع الماروني عن آخره الى اليأس والانقسام والتشرذم والهجرة.

ولا نقصد هنا القول إن دور الموارنة قد انتهى، لكن المقصود أن على زعمائهم أن يقتنعوا بأنهم ليسوا بشيراً لا من قريب ولا من بعيد، وأن على المسيحيين الاقتناع بأن بشيراً كان ظاهرة لن تتكرر ولن تتجسد في أي زعيم أخر، وأن عليهم الاقتناع بأن زمن الأقوياء ليس في هذا الزمن وقد لا يكون في أي مستقبل قريب.

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل الطوائف والأحزاب والتيارات الأخرى أفضل حالاً؟ الجواب طبعاً لا، في وقت تراجعت أحزاب ومنظمات واختفت أخرى بعد رحيل زعمائها، وفي وقت لن تكون أحزاب حالية قوية في حل من أي انهيار عندما تحين الساعة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، “التيار الوطني الحر” بعد ميشال عون و”القوات اللبنانية” بعد سمير جعجع وتيار “المستقبل” بعد سعد الحريري وحركة “أمل” بعد نبيه بري و”حزب الله” بعد حسن نصر الله، والجميع بعدما تدور السياسة دورتها وتأخذ من يقف في طريقها سواء كان أعزل أو مدججاً بالسلاح.

يقول أحد مستشاري بشير: لقد كان الرجل حلم المسيحيين وكابوس المسلمين، لا يستطيع المسيحيون احياء الحلم ولا يرضى المسلمون باحياء الكابوس، وعلى الفريقين طي هذه الصفحة والمضي بحياتهما السياسية من دون التفاتات الى الوراء.

ويختم: هذا هو لبنان العاجز حتى اشعار آخر على الأقل، عن العيش من دون زعامات حتى لو بنى من المؤسسات ما يبني ألف وطن.

شارك المقال