العهد والطائف… من يمشي في جنازة الآخر؟

أنطوني جعجع

هل يدرك الرئيس ميشال عون أن هذا “البكاء” على صلاحياته يجب أن يكون بكاء على خيارات سابقة ورهانات سابقة، أوصلت إلى دستور جديد نقل رئيس الجمهورية اللبنانية من رئيس شبه مطلق إلى رئيس شبه رئيس؟
وهل يدرك أن ما يشكو منه اليوم هو نتاج هزيمة على المستوى العسكري يوم كان رئيساً لحكومة انتقالية، ونتاح فشل على المستوى القيادي يوم صار رئيساً للجمهورية؟
مشكلة الرئيس عون تكمن في اقتناعه المطلق بأنه من طينة لا تخطئ. وبأنه من حيثية لا تتكرر أو على الأقل لا تشبه أحداً ولا يشبهها أحد. وأن ما يتعرض له من سوء إنما يعود إلى ظلم في غير محله. وما يلاقيه من ثناء إنما يعود إلى واجب حتمي لا يقتضي أي تقدير أو شكر.
بالنسبة إلى الرجل، الهزيمة ليست هزيمة، والنكسة ليست نكسة، والتراجع ليس تراجعاً، والتقلب ليس تقلباً، والتنصل ليس تنصلاً… بل هي كلها جزء من عدة الشغل، يساعده في ذلك جمهور يؤمن به بلا حدود، وصانعو قرار يعرفون تماماً أنه لا يوفر أي شيء في مقابل الوصول إلى الضوء والسلطة.
هذا ما فعله الرئيس أمين الجميل يوم سماه رئيساً لحكومة انتقالية في اللحظة الأخيرة. وهذا ما فعله الرئيس بشار الأسد الذي عاد به من باريس لضخ الروح في حلفائه المترنحين بعد ثورة الأرز، في مقابل السير به نحو قصر بعبدا، ما يفسر التحالفات التي أبرمها في انتخابات العام ٢٠٠٥ مع عدد من أركان الوصاية السورية، ومنهم ميشال المر والحزب السوري القومي الاجتماعي في المتن وسليمان فرنجية في الشمال، وهذا ما فعله حسن نصرالله عندما انتزع منه غطاء مسيحياً تستر به بعد العزلة الخانقة التي أصابته أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وعندما سوّقه مرشحاً وحيداً إلى الرئاسة تحت شعار: لك الفخامة ولي الدولة.
ولا يختلف اثنان على أن عون اعتمد على حظه في مكان وهفوات خصومه في مكان آخر، وليس على أي إنجازات عسكرية يعتدّ بها يوم كان في السلك العسكري، أو على أي إنجاز سياسي أو خدماتي يوم كان في الحلقة النيابية، أو أي تحول عصري أو حضاري يوم صار في الحلقة الرئاسية. وكأننا به يقول: مهمتي أن أكون حيث استحق أن أكون وليس أن يكون ما يجب أن يكون. أو كأننا به يقول: مهمتي أن أدخل التاريخ لا أن أصنعه.
والواقع في هذا المجال، أن الرجل لا يشعر بأي ندم حيال خطأ ما. ولا يجري أي مراجعة لتكتيك بائد. ولا يقدر أي عواقب في أي خطوة ناقصة أو متهورة. ولا يقدم المصلحة العامة على أي مصلحة شخصية حتى لو كان في الأمر ما يجر الطوفان إلى العباد والبلاد معاً.
وهنا نسأل: هل تغير عون؟ هل يمكن أن يتغير؟
نعود إلى ثمانينيات القرن الماضي لنسأل أيضاً: هل سمح بانتخاب رئيس للجمهورية لا يكون ميشال عون نفسه؟ هل تنازل للرئيس المخضرم رينيه معوض بعدما قطعت عليه كل سبل البقاء في “بيت الشعب”؟ هل قرأ التحولات التي أعقبت غزو الكويت وسقوط حليفه الوحيد صدام حسين؟ وهل قرأ تقدم الرئيس حافظ الأسد إلى الصفوف الأمامية في المحاصصات الأميركية الناتجة عن تحرير الإمارة الخليجية الصغيرة؟ هل قرأ القوة العسكرية المتعاظمة لـ”القوات اللبنانية” بعد المواجهة الأولي التي كاد يكسبها لو أكمل طريقه حتى النهاية؟ هل قرأ بعد إبرام اتفاق الطائف أن الحل الوحيد بات يقوم على أمرين أساسيين لا ثالث لهما: إما يقبل به بالحسنى وإما يقبل به بالقوة.
وأكثر من ذلك، لم يدرك عون أن الاجتياح العسكري السوري للمناطق الشرقية بات أمراً مقبولاً لدى الأميركيين، وأن كل الخطوط الحمر من عربية وغربية سقطت تباعاً، ولم يعد ساكن القصر ورقة ثمينة لأي طرف فاعل باستثناء الأسد، الذي وجد في عناده وتهوره أفضل وسيلة مختصرة لإضعاف الجيش و”القوات اللبنانية” ونزع مخالب المسيحيين في انتظار ساعة الصفر.
لم يكن الأمر يتطلب أكثر من قرار تاريخي يتخذه عون بحيث يتنحى لمصلحة معوض، الذي كان يسعى إلى بعض التعديلات في اتفاق الطائف مستنداً إلى ما تبقى من القوة العسكرية المسيحية، وتجنيب المسيحيين تلك الكأس المرة التي لا يزالون يتجرعونها إلى يومنا هذا.
ولن نخوض هنا في مزيد من التفاصيل والحقائق التي سبقت عودته من باريس إلى بيروت، بل نعيد السؤال نفسه: ماذا غير المنفى في طباع الرجل وذهنيته؟ وماذا غيرت الرئاسة في أدائه وشخصيته؟ وماذا أضاف العمر الطويل على خبرته ومدرسته؟
الجواب يكاد يكون: لا شيء على الإطلاق، باستثناء تقاسم القرارات مع المقربين منه، ليس إيماناً منه بكفاءاتهم بمقدار ما يرى شبابه فيهم من جهة وما يعيد أحياء تاريخه من جهة ثانية.
حتى الآن لم يرتكب عون أي تقصير أو فشل أو هفوة في نظر عون.
ويتصرف بعد نحو خمس سنوات في الحكم على أنه كان “ضحية” الآخرين تماماً كما كان قبل ثلاثين سنة. وأن من يحاربه إنما يفعل ذلك لأنه “رجل استثنائي”. وأن من يعارضه إنما يفعل ذلك لأنه يتطلع إلى خلافته. وأن من يذكره بوعوده إنما يفعل ذلك من باب التجني والحرتقة. وأن من يسأله عن حقوقه وماله وأمنه ورفاهيته إنما يفعل ذلك من باب الإحراج فالإخراج.
الكلام على عون وسجله يكاد لا ينتهي. لكننا نعود فنسأل أثر الرسالة – الظاهرة التى بعث بها إلى مجلس النواب طالباً التخلص من الرئيس المكلف سعد الحريري: ألم يفعل ذلك لأن القلم الذي يحمله لن يوقع على ما لا يجلب له الغالبية التي ينشدها والضمانة التي يحتاجها؟ أو لأن ما يحاك خارج القصر لا يتماهي مع ما يدور في الضاحية الجنوبية ودمشق وطهران؟ أو لأن القافلة الحكومية المرتقبة لا تحمل في طياتها ملامح الخليفة المنشود أو ما تمهد له الطريق نحو القصر؟
ونسأل بعد: ألم يرفض التوقيع على التعيينات القضائية لأن فيها من لا يواليه أو من لا يأتمر به؟ ألم يرفض التوقيع على تعديلات الحدود البحرية لأن في ذلك ما يزعج الأميركيين ويقطع الطريق على مساعي التخلص من العقوبات الأميركية؟ ألم يرفض التوقيع على التشكيلات الحكومية المتنوعة، لأن فيها من لا يتوافق معه في المطلق أو من لا يكون رقماً في لعبة التصويت عندما يحين التصويت وفي لعبة الاستقالة عندما يحين الانقلاب؟
ونسأل بعد: كيف يكون التوقيع على تجنيس مئات السوريين من أهل النظام الحاكم في دمشق، وعلى إعفاء بعض المهربين، أسهل من إنقاذ الشعب من خناقه وسحب الوطن من نفقه، وإحياء دوره الريادي وفك عزلته، وفتح أسواقه، وتصويب مساراته، وتحرير قراراته.
ونسأل بعد: ماذا كان يدور في مخيلة الحريري وسمير جعجع عندما بايعاه رئيساً معيناً أكثر منه منتخباً، في مقابل تسوية هنا ومحاصصة هناك؟ فإذا ظن الأول أن الرجل سيكون أباً له وظن الثاني انه سيكون أخا فيكفي أن نلتفت يمنةً حيث الخيبة ويسرةً حيث الصدمة.
وأخيراً نسأل: ألا يدرك عون أنه يدفع ثمن اتفاق كان له الفضل السلبي في إبرامه، بدل التلطي خلف تاريخ يريد تزويره وخلف وريث يريد شيطنته؟ وأخيراً نسأل أيضاً: إذا كان عون قادراً أن يفعل كل ذلك وهو يشكو من قلة الصلاحيات ترى ماذا يمكن أن يفعل لو كان يتنعم بكثرتها؟

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً