أمراء السلم… فاقوا أمراء الحرب إجراماً!

محمد شمس الدين

أمراء الحرب، مصطلح لبناني معروف ومتداول، يوصف به قادة الميليشيات إبان الحرب الأهلية اللبنانية، وكان كل أمير مسؤولاً عن منطقة معينة، هو الذي يؤمن لها احتياجاتها ويحميها، بل يقوم بجباية الضرائب فيها. واستمر هذا المشهد إلى حين انتهاء الحرب الأهلية مع التوصل إلى اتفاق الطائف، بعد ضغط خارجي أممي. واليوم يعيش البلد سلماً نسبياً منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وهذا السلم أنتج أمراء جدداً، قد يكونون أسوأ بكثير من أمراء الحرب، يتحكمون بعيش المواطن من مختلف نواحيه، وهم إن كانوا غير ظاهرين للعلن قبل الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في العام 2019، تراهم اليوم يتبخترون بكل وقاحة أمام الشعب اللبناني، مزهوين بسطوتهم وسلطانهم، في ظل فشل وغياب تام للدولة اللبنانية، فمن هم هؤلاء الأمراء؟

استطاع أمراء الحرب تثبيت سلطتهم عبر الانخراط في الدولة بعد الحرب، ووصلوا إلى أعلى مراكز الحكم، بل ان نفوذهم أصبح وراثياً، بحيث يتسلم أحد أفراد العائلة الدفة عن الأمير الكبير الذي ناضل عشرات السنين من أجل حماية الطائفة والمنطقة، وعلى الرغم من كل الفائدة التي عادت إلى الأمير من الحرب والثروات التي نهبها، إلا أن الشعب يطيعه طاعة عمياء، فهو الحامي و”لحم كتافهم من خيرو”. وعلى الرغم من أن هذا الأمير لم يعد يهتم لصغائر الأمور، إلا أنه يطلق يد حاشيته لتستفيد في كل المجالات، وهذه الحاشية أصبحت من أمراء السلم، وسطوتها وسلطتها وبطشها تخطت الأمير الكبير. وإن أردنا تعداد أمراء السلم هؤلاء، قد نحتاج إلى موسوعة كاملة للتمكن من ذكرهم كلهم، ولكن سنحاول الإضاءة على أبرزهم:

– نبدأ من أمراء الصيرفة في السوق الموازية، الذين أصبحوا يتحكمون بقيمة العملة الوطنية، ويحققون أرباحاً خيالية من معاناة المواطن الذي لا حول له ولا قوة، بل إنهم فرضوا مصطلحات غريبة جديدة قد لا تجدها في أي بلد آخر، مثل افتتح سوق الدولار اليوم بقيمة كذا، وأغلق سوق الدولار اليوم بقيمة كذا، هم يحددون السعر، وهم يجنون الأرباح، بينما يخسر الشعب أشد خسارة. أمراء الصيرفة هؤلاء لديهم علاقاتهم، وأمنهم الشخصي، وقد يتفوق على أمن رؤساء مثل جو بايدن وفلاديمير بوتين، يرتكبون أفظع الجرائم وهم يمتلكون الغطاء من أمراء الحرب كونهم من الحاشية.

– ثاني الأمراء أصحاب المولدات الخاصة، وهو قطاع غير شرعي يحقق أكثر من 2 ملياري دولار أرباح سنوياً، هؤلاء وصل نفوذهم لدرجة أن لديهم عملاء في وزارة الطاقة يستطيعون متى أرادوا تشغيل الكهرباء أو إطفاءها. بل الأنكى من ذلك، قبل الأزمة المستفحلة في وزارة الطاقة، كان هؤلاء يمتلكون القدرة على قطع الكهرباء عن المنازل في منطقة ما، وتحويلها من منطقة أخرى على أساس أنها من مولداتهم، وهكذا كانوا يجعلون المواطنين يدفعون ثمن كهرباء غالية من كيسهم. أما اليوم فهم يتحكمون بقطاع الكهرباء في لبنان، بسبب الفشل الذريع في وزارة الطاقة، بل أصبح أمراء المولدات يقومون بالتقنين الكهربائي، وفرض رسوم لا يمكن تحملها، من أجل التغذية الكهربائية، ويختلف الحكم بين أمير وأمير، بعض المناطق تحظى بـ 15 ساعة من كهرباء المولد، بينما أخرى بالكاد تحظى بـ 5 ساعات فقط، وممنوع على أي أحد المضاربة عليهم، السوق لهم وحدهم، تحت حماية أحزاب السلطة. ويمتلك كل صاحب مولد ميليشيا خاصة به تحميه من أي منافس، أو معترض، حتى أنه في العديد من المناطق، إذا أقدم سكان مبنى ما على شراء مولد خاص له، يتم تدميره، بأمر من أمير مولدات المنطقة.

– ثالث الأمراء، هم تجار المياه، هل هناك بلد في العالم يُخضع شعبه بحرمانه من الماء؟ نعم هذا يحصل في لبنان، فأمراء المياه يقطعون مياه الشفة عن الناس، يعبئونها هم، ويبيعونها بأسعار باهظة للشعب العطشان، ولا أحد يستطيع الوقوف في وجههم، وهم يكرهون البيوت أو الأبنية التي تمتلك بئراً خاصة، يتمنون جفافها كي يستطيعوا نهب أموال ساكنيها، عبر بيعهم مادة من أساسيات الحياة، وهذا لا يحصل في أكثر البلدان فقراً وتخلفاً، بل حتى في بلدان الجفاف.

– رابع الأمراء، هم تجار المحروقات، إن كانت الشركات المستوردة للمحروقات أو أصحاب المحطات، الذين يحكمون الدولة بأمها وأبيها، عند كل تحرك لهم، يخسر المواطن نصف ما يجنيه تلقائياً. أرباحهم لا تعد ولا تحصى، يقفلون الشركات ويرفعون خراطيم المحطات، ويفرضون طوابير الذل على الشعب. قطاع استطاع اخضاع الدولة لأهوائه وأرباحه، بحيث تهرع السلطة الى تلبية رغباتهم، حتى لو “دعست” على مواطنيها وحياتهم.

– خامس الأمراء، أمراء الخبز، الذين حققوا أرباحاً طائلة من دعم الطحين لعقود، يشترونه بأبخس الأثمان، على أساس بيع رغيف العيش، ولكنهم يستعملونه من أجل الباتيسري والكرواسون والخبز الافرنجي. تقدم أمراء الخبز بعد الأزمة الاقتصادية، فرضوا طوابير الذل على المواطن، وأخضعوا الدولة بمصالحهم وأرباحهم، بل إن أحدهم أصبح يكنى بـ “أبي كرواسون”، كأنه سلطان يحكم قطاع الخبز، كما حكم سلاطين العالم مملكاتهم.

– سادس الأمراء، هم مافيا الدواء، الذين تحكموا على مدى عشرات السنين، بقطاع الأدوية في البلد، وحققوا أرباحاً طائلة، وذلك عبر عقود احتكارية أعطتهم إياها الدولة كامتياز خاص لهم. بالطبع، هم إما من حاشية أمراء الحرب، أو شركاء معهم، قتلوا المرضى من أجل مصالحهم الخاصة، حتى في عز الأزمة الاقتصادية، لم يرف لهم جفن، ولا يزالون إلى اليوم يحكمون قطاع الدواء بقبضة حديدية، لا تلين أمام صرخات المواطنين وآلامهم.

أمراء السلم كثر، يتحكمون بغالبية القطاعات في البلد، وقد ازدادات أعدادهم منذ بدء الأزمة الاقتصادية، تارة يتفقون، ويمصون دماء الشعب، وتارة يختلفون فتبدأ الاشتباكات ويسقط الناس قتلى وجرحى ضحايا ثانويين لمعاركهم. وقد استطاعوا التفوق في الاجرام على أمراء الحرب، الذين كانوا يؤمنون احتياجات مناصريهم كي يستمروا في مبايعتهم، ولكن أمراء السلم لا تعنيهم المبايعة من أحد، فهم حاكمون بقوة الأمر الواقع، يوظفون بضعة مسلحين ليكونوا الميليشيا الخاصة بهم، تحميهم وتحارب من أجلهم، ينهشون لحم أخوتهم في الوطن، بطريقة يخجل منها أشرس المفترسين في الغابة، الذي يأكل للشبع فقط، أما هؤلاء فلا يشبعون، عقدتهم هي الجوع الدائم، كأنها لعنة من آلهة الفراعنة… أمراء السلم، الجراد الذي لا يشبع حتى لو أكل الأخضر واليابس!

شارك المقال