نصر الله في الزاوية الصعبة!

أنطوني جعجع

ليس من قبيل المصادفة أن ينتقل حسن نصر الله من شعار “الأمر للدولة” الى شعار “الأمر لي”، وأن يتحول من مواطن “مطواع” الى حاكم مطلق لأن يضرب حساباً لأي خصوصية أو شراكة أو مخاطرة.

فالرجل يدرك، أن الخيارات قبل “فيينا” لم تعد كما بعدها، وأن ما كان يتوقعه من الأميركيين في عهد جو بايدن لم يكن في حجم الآمال ولو في حدها الأدنى، ليصل بذلك الى المعادلة القائلة إن ما تعجز عنه المساومات ربما يأتي به السلاح.

ففي قراءة سريعة للمشهد الاقليمي والدولي، ندرك أن الرجل بات أمام أمرين لا ثالث لهما، اما القبول بما لا يمكن تغييره بالحسنى واما إرغام الخصم على التسليم بما لا يمكن فرضه بالقوة.

والواضح أن نصر الله، اختار الأمر الأول ليس لأنه الأفضل، بل لأنه الأوحد، بعدما أدرك أن ايران عادت من “فيينا” خالية الوفاض، وأن بايدن انصاع لضغوط اسرائيل من جهة والانتخابات النصفية في بلاده من جهة ثانية، وأن الغرب عموماً لا يبدو ميالاً الى أي هدنة أو مسايرات مع طهران، وأن ايران نفسها ليست في وضع اقتصادي أو عسكري أو دولي يسمح لها بفرض شروطها أو ضرب شروط الآخرين.

فما يجري في ايران لا يوحي بأن الامام الخامنئي في وضع صحي يسمح بالابقاء على وحدة البلاد واستقرارها وعلى تضامن أجهزتها ومكوناتها السياسية والأمنية والاستراتيجية، وما يجري في العراق نقلها من عراب ينفلش على الجزء الأكبر من البلاد الى مجرد فصيل يتلطى خلف “الحشد الشعبي” وبعض الأئمة الشيعة، وما يجري في اليمن، انتزع منها المبادرة العسكرية، وحوّل الحرب الى ضوضاء تترنح بين الهدنة والمناوشات، وما يجري في سوريا يشبه الخصم العالق في الزاوية يتلقى الضربات من اسرائيل مرة ومن أميركا مرة، والعاجز عن الافلات أو الرد أو القيام بأي عمل مضاد، وما يجري في غزة لا يوحي بأن حلفاء ايران يستطيعون تغيير معادلات دراماتيكية على الأرض تتعدى اطلاق الصواريخ التي سرعان ما تحد فاعليتها صواريخ “القبة الحديدية”.

وفي لبنان، لا يبدو الأمر أفضل حالاً، فهو، أي نصر الله، يدرك أن أرقامه في البرلمان الجديد ليست كما كانت قبله، وأن موقع “حزب الله” لدى الرأي العام اللبناني لم يعد كما كان قبل تفجير المرفأ وانهيار المؤسسات تباعاً، وأن هيبة الرئيس ميشال عون، لم تعد كما كانت قبل انتخابه حتى في صفوف تياره وأنصاره، وأن حلفاءه، سواء كانوا من المسيحيين أو من الدروز أو من السنة، لم يعودوا تلك الكتلة السياسية المتجانسة أو المتماسكة التي يستطيع بها السيطرة على البرلمان أو الحكومة أو الرئاسة ولا حتى الشارع، ما يعني عملياً، أن الرجل لم يعد يملك أي باب فاعل يدخل منه الى المكاسب السياسية والاستراتيجية عدا الباب الذي يدخل منه الى مخازن السلاح.

وليس الخطاب الأخير الذي ألقاه حسن نصر الله، الا ترجمة للحال العصبية التي يعيشها الرجل، وانعكاساً للحال المماثلة التي تعيشها ايران، معتبراً أن هامش الوقت يضيق، وأن الركود الذي التزمه في فترة ما بعد الانتخابات التشريعية لم يعد صالحاً في مواجهة الهجمة الاسرائيلية الشرسة على كل ما يتحرك في سوريا وايران وغزة واليمن، وفي مواجهة الحصار الذي تعيد واشنطن تكريسه حول الجمهورية الاسلامية الايرانية، وفي مواجهة الغرب الذي يرى في حقل “كاريش” الاسرائيلي، بعد تداعيات الحرب في أوكرانيا، ما يضطره الى المخاطرة بأي شيء والمساومة على كل شيء والتخلي عن كل شيء في مقابل الحصول على غاز حليف لا يتأثر بأي ضغوط روسية أو صينية أو ايرانية أو حتى لبنانية.

والواضح، أن نصر الله، أراد من خطابه الأخير رفع السقف الى أعلى ما تطاله يده، موزعاً تحذيراته في كل الاتجاهات، موحياً لمن يهمه الأمر سواء في الداخل أو الخارج، بأنه يملك القدرة على فك الحصار حول ايران من جهة، وترهيب اسرائيل من جهة ثانية، وحشر الأميركيين من جهة ثالثة، وتطويع اللبنانيين من جهة رابعة، وفرض منطق “الهلال الشيعي” على الخريطة العالمية من جهة خامسة.

وليس من قبيل المصادفة، أن ينقض “حزب الله” على صلاحيات قوات “اليونيفيل” ومهامها ودورها في الجنوب محاولاً تحويلها الى مجموعة من “نواطير الأحراج” أو “شرطة المرور “، وأن يفتح مطار بيروت للمئات من قوات “الحشد الشعبي” وربما “الحرس الثوري” والحوثيين في ما يشبه التعبئة الشاملة والمتنوعة التي تسبق اعلان حرب أو التلويح بها أو الاستعداد لها، وهو أمر، يعرف حسن نصر الله أنه لا يمكن أن يمر لا على مستوى الأمن الاسرائيلي، ولا على مستوى الديموغرافيا اللبنانية والتوازنات الطائفية، ولا على مستوى المصالح الأميركية والعربية وسلامتها في لبنان والمنطقة.

من هنا يسأل المعنيون ماذا جاء هؤلاء يفعلون في لبنان بعدما أعفتهم السلطات اللبنانية من تأشيرات الدخول بطلب من “حزب الله”؟ هل جاؤوا للانضمام الى “حزب الله” في أي حرب محتملة تنطلق من الجنوب؟ هل جاؤوا لمزيد من التدريبات الخاصة بحرب الشوارع في بغداد استعداداً لمواجهة مباشرة مع أنصار مقتدى الصدر واستعادة الأرجحية الايرانية لدى الجار العراقي؟ هل جاؤوا لتدريب الحوثيين على صنع المسيرات والصواريخ وعلى أنواع جديدة من القتال الذي يمكنهم من اختراق جبهات يمنية عاصية وفي مقدمها جبهة مأرب؟

انها في اختصار لعبة القاتل والمقتول أو لعبة اللعب على حافة الهاوية، تماماً كما فعل ياسر عرفات عندما احتضن معظم المنظمات المتطرفة قبل أن تنقض عليه اسرائيل ويتخلى عنه العرب، وانها اللحظة التي نسأل خلالها هل يجر حسن نصر الله لبنان الى حرب مجهولة النتائج باسم الحفاظ على ثروته النفطية، واما يجره اليها لفك الحصار عن ايران وتعزيز أوراقها التفاوضية، أو لوقف أعمال التنقيب في كل من اسرائيل ولبنان، لتجنيب ايران أي منافسات في هذا المجال، وحرمان الغرب بالتالي من أي مورد بديل يزيد الخناق على فلاديمير بوتين في أوكرانيا.

وثمة هدف آخر لا يقل أهمية عما يخطط له “حزب الله”، وهو تخيير المعارضة اللبنانية بين انتخاب “رئيس وسطي” من نادي اللاموقف، والقبول بشغور قاتل مرفق بشبح حرب قد تقضي على أي أمل في انفراجات محتملة ترافق أي عهد جديد.

وفي اختصار أيضاً، يعرف حسن نصر الله أن الفراغ في الموقع الرئاسي ليس في مصلحته هذه المرة، وهو ما يفسر اصراره على تشكيل حكومة “شرعية” ولو بما تيسر وبمن حضر، كما أن بقاء ميشال عون في القصر الجمهوري ليس في مصلحته أيضاً، وكذلك المضي بمرشح يشبه جبران باسيل أو سليمان فرنجية.

ويعرف أيضاً أن “الزمن الجميل” الذي يعايشه منذ “حرب تموز” الى انحسار ملحوظ، وأن ما كان فاعلاً في الأمس أصبح ملتبساً اليوم، وما كان أحادياً في الأمس بات تشاركياً اليوم، وأن جل ما يستطيع فعله من دون منافسة من أحد هو الكثير من التحديات وشد العصب عساه يأتيه ببعض الزخم الشعبي في لبنان ويأتي ايران ببعض المواقع الاقليمية المتقدمة.

لكن ما لا يعرفه حسن نصر الله أنه ليس اللاعب الوحيد ولا المقاتل الوحيد، وأنه هذه المرة يخطو سريعاً على خطى عرفات الذي اعتقد ذات يوم، أن الداخل اللبناني لا يستطيع لجمه وأن العامل الخارجي لا يجرؤ على ضربه.

ويقول خبير عسكري مخضرم في هذا المجال: ان اسرائيل لن تخوض حربها المقبلة كما خاضتها في العام ٢٠٠٦، فهي هذه المرة لا تخوض حرب وجود وحسب، بل حرب جيوسياسية عالمية بالواسطة قد تحولها في حال النصر الى دولة عظمى في أكثر من مجال اقتصادي وعسكري.

ويضيف: اذا كان الجيش الاسرائيلي يملك من الأسلحة الأميركية نصف ما يملكه الجيش الأوكراني في مواجهة العملاق الروسي، فألف سلام على لبنان وكل ما يقف فيه من بشر وحجر، قائلاً: إن على حسن نصر الله أن يعرف تماماً أن أي حرب قد يخوضها في هذا التوقيت الحساس بالذات، سيخوضها وحيداً من دون دعم محلي أو عربي أو دولي أو حتى اسلامي، في وقت بات العالم يؤمن بأن “ايران قوية” يعني “شرقاً مضطرباً”، وأن “غازاً ممنوعاً” من “كاريش” يعني مجتمعاً عالمياً مقنناً وغاضباً.

ويختم: ان على “حزب الله” أن يدرك أن أي حرب قد يخوضها في ظل هذه الظروف ستكون مؤلمة الى الحد الذي قد يخيّره بين الخروج نهائياً من ايران أو خروج ايران نهائياً من لبنان.

شارك المقال