أسرار لبنانية عن الملك سلمان (1-2): كبير المثقفين العرب

أحمد عدنان
أحمد عدنان

في عام 2008 أجريت – أنا والصديق سلمان الجبيلة – عدة لقاءات مع مثقفين لبنانيين عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وكان حينها أمير الرياض، وكان الموضوع علاقة العاهل السعودي بالمثقفين والصحافيين وهو الملقب بـ “أمير الصحافة” و “أمير المثقفين”، ووجدت من المناسب الكشف عن تلك اللقاءات – مع الأساتذة سمير عطا الله وعرفان نظام الدين وسليم نصار والراحل الكبير غسان تويني – بمناسبة اليوم الوطني السعودي – والحديث عن الملك بلقب الأمارة في النص سببه توقيت المقابلات قبل 14 عاماً.

الانطباع الأول والدائم

“هذا الرجل لا يُمكن أن يُنصف سواء بمقالة أو كتب كثيرة، لن يُنصف ولن يستطيع أحد أن يعدل في حقه”.

بهذه الكلمات بدأ حديث الكاتب سمير عطا الله الكاتب اليومي في صحيفة “الشرق الأوسط” الذي تعرف للمرة الأولى على الملك سلمان في باريس – منتصف السبعينيات الميلادية – إبان صدور مجلة “المستقبل”، يقول عطا الله: “وقد جاء سموه آنذاك في زيارة شبه رسمية إلى العاصمة الفرنسية، وكان لي شرف التعرف إليه شخصياً، لكنني بالطبع كنتُ أعرفه من قبل بالاسم والسمعة العطرة التي رافقته في كل مكان وفي كل عمر وفي كل مسؤولية”. أما انطباع عطا الله الأول عن شخصية الملك، فقد ظل على حد وصفه، هو الانطباع الدائم: “فالرجل أمير (ملك) بكل معنى الكلمة، في المظهر، في الشكل، في التأدب، في السلوك، في التعاطي مع الناس، في كل شيء، هو أمير (ملك) كيفما اتجه وكيفما حلّ، حتى أحياناً عندما يخطر له أن يسخر من شيء، أو أن يُداعب زميلاً من الزملاء، يفعل ذلك بكل أمارة (وملكية) إذا صح التعبير”.

أما عرفان نظام الدين، الكاتب في صحيفة “الحياة” اللندنية، فتعرف على الملك سلمان على مرحلتين، كانت الأولى في بيروت عندما كان يزورها الملك ويلتقي بكامل مروة، مؤسس صحيفة “الحياة”، ورآه شخصاً على مستوى عال من الذكاء والثقافة والانفتاح، لكنه في الوقت ذاته، ودود ومحب ومتواضع جداً، وعقلاني في مناقشة قضايا وطنه وأمته، لتأتي بعدها – بسنوات – المرحلة الثانية، حين تعرف عليه في لندن لما تولى نظام الدين رئاسة تحرير “الشرق الأوسط”، لتصبح العلاقة أكثر وثوقاً، كما أبان شارحاً: “ًوكنت أقابله بصفة دورية بين الرياض ولندن وماربيا، وكانت لديه مجالس عديدة منها على سبيل المثال مجلس قصر الحكم الذي يستقبل فيه المواطنين ويتولى شؤونهم، والمجلس الآخر مجلس البيت يوم الاثنين الذي يتابع فيه شؤون الوطن والشؤون العامة، والأهم كان مجلس المثقفين والصحافيين والإعلاميين الذي يكون في بيته ويحضره دائماً، ولا تكتمل زيارة الإعلامي والمثقف إلى الرياض إلا بزيارة الأمير (الملك) سلمان بن عبد العزيز ومناقشة الأحداث التي تمر بالمملكة والعالم العربي، وكنا كلما نلجأ إليه يُعيننا دائماً، كان سباقاً لمساعدتنا في المرض والأزمات، كان يقف بجانبنا من دون أن نكون قد أخبرناه”.

من جهته، فقد تعرف صاحب “النهار” غسان تويني، على الملك سلمان، وقت زيارات الملك إلى بيروت، يقول تويني: “كان يأتي إلى (النهار) ويناقشنا في الفكر والثقافة، ومعرفتي فيه قبل الودّ الشخصي كانت وداً فكرياً، وأستطيع القول ان علاقتي بسموه كانت مدخلاً لأتعرف على إخواننا السعوديين وبقية الأسرة حيث أتت بعد معرفته معرفتي بالأمير طلال بن عبدالعزيز والأمير سلطان بن عبدالعزيز والأمير الوليد بن طلال، وبقية الأسرة الكريمة، وغالبية حواراتنا كانت عن العروبة”.

مكانة لبنان في قلب الملك

وينتقل عطا الله بالحديث إلى مواقف الملك سلمان، فيقول: “أستطيع الإدعاء أو الزعم، بأنني رافقت مواقف الأمير (الملك) سلمان السياسية على مدى ثلث القرن الماضي، طبعاً الموقف الأهم عند الأمير هو السلوك، وأعتقد أن للبنان مكانه خاصّة في فكر الأمير وفي خاطره وفي قلبه، وعندما جاء مرة إلى لبنان أقيمت له حفلة تكريم وقف يخطبُ فيها المفكر الكبير مُنح الصلح الذي قال إن وصول الأمير إلى برمانا يُذكره بذهاب الرّحّالة الرائد أمين الريحاني إلى نجد حاملاً رسالة لبنان في أوائل القرن الماضي إلى الصحراء، قبل ظهور النفط وقبل أن تدخل المملكة أو الخليج في عصر الطفرة والازدهار، لقد ذهب الريحاني يومها إلى الرياض وإلى البحرين وإلى بغداد وإلى كل مكان؛ ليُحدث المسؤولين الكبار وخصوصاً جلالة الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود عن ضرورة الوحدة، وعندما جاء الأمير سلمان إلى لبنان أو عندما يجيء في كل مرة؛ يجتمع من حوله الكثيرون كأنما ثمة مهرجان، وهو لا يُحدثهم إلا في شيء واحد، ضرورة الحفاظ على الوحدة اللبنانية وعلى الوحدة الوطنية، أي على منهج الملك عبد العزيز نفسه، الذي كان يقول إن للبنان مكانه خاصة في قلب الأمّة العربية يجب على كل عربي أن يعرف كيف يحافظ عليه، لأن هذا البلد الصغير هو في النهاية شُرفة هذا المنزل الكبير الذي هو الأمّة”.

ويضيف عطا الله: “لقد وقف الأمير (الملك) سلمان إلى جانب لبنان ليس فقط من حيث التصريحات وإنما سعى في سبيل خير لبنان كما سعى في سبيل خير فلسطين كما سعى بكل ما أوتي في سبيل خير الأمة جمعاء، إذا أصغيت إلى المصريين تجد أنهم يعتقدون أن لمصر مكانه خاصّة في قلب الأمير (الملك) كما يعتقد اللبنانيون، والحقيقة أن قلب الأمير (الملك) يتسع لأبناء هذه الأمّة وليس أدل على ذلك من كونه تحمل على عاتقه رئاسة لجنة التبرعات لفلسطين، ورفضه إقحام القضية الفلسطينية في أي خلاف سياسي، أو حتى في أي نزاع بين المسؤولين، لقد أبقى القضية الفلسطينية كما أبقى علاقته مع البلدان العربية الأخرى وخصوصاً بلدي لبنان فوق كل تعاط يومي، أحب لبنان كبلد فريد، ولو أن الشعب اللبناني أحياناً لا يعرف كيف يُخلص لبلده”.

ويكمل: “الأمير (الملك) سلمان يُعَلم من دون أن يُلقي الدروس أحياناً ومن دون أن يُدرك ذلك، لقد سمعته بغير مرة، يخطب في القضية العربية وسمعته يخطب في ضرورة قيام طبقة وسطى في كل البلدان العربية لأن الطبقة الوسطى هي التي تحمي كيان الأمم وتؤمن الكادرات والعمال والأساتذة والمدرسين والأطباء، يُخيل إليك أحياناً وأنت تُصغي إليه، إلى هذه التجربة الطويلة في الإدارة، التي حوّلت الرياض من مدينة صغيرة أو شبه بلدة إلى مدينة حضارية وعاصمة كبرى في حجم لبنان مساحة وسكاناً، يُخيل إليك وأنت تُصغي إليه أحياناً أنه عالم اجتماع، وأحياناً أنه رب بيت يُعالج المسائل كلها بروح العطف والاهتمام والمحبة”.

لفتة إلى نبيل خوري

وعلى الصعيد الإنساني، يتذكر نظام الدين أنه التقى بالملك سلمان في بيروت حينما كان يزور صاحب السمو الملكي الأمير نواف بن عبد العزيز، وإذا بالملك يعلن عن ذهابه لزيارة نبيل خوري، فرأى نظام الدين أن لا جدوى من زيارة الزميل المريض (الراحل فيما بعد) كونه في غيبوبة، ولكن الملك أصر على الزيارة لأنه وصف خوري بالصديق العزيز جداً وواجبه وضميره يدفعانه لزيارته، يعلق نظام الدين: “كان نبيل خوري لا يُمكن أن يدري به، ولكن الوفاء شيمة سلمان بن عبدالعزيز الدائمة”.

وهنا يروي الصحافي سليم نصار موقفاً آخر: “كان الأمير (الملك) سلمان قد أنهى اجتماعه مع وفد لبناني برئاسة المهندس متري النمار، مدير عام التنظيم المدني الذي زار المملكة بهدف الحصول على تمويل لبعض مشاريع الدولة، وأخبرني الأمير أنه بين الانتظار في مكتبه وحضور مجلسه لاستقبال المواطنين، أطل من باب القاعة شرطيان يتقدمهما شاب يرتدي بذلة بيضاء اللون، وقد ظهرت على وجهه علامات الخوف والارتباك، وكان واضحاً أن الشاب الأنيق سيق إلى قصر الحكم مخفوراً بسبب مخالفة ارتكبها، وسأل الأمير سلمان أحد الشرطيين عن سبب التوقيف، فأجابه بأنه ضبط وهو يجمع تبرعات من دون الحصول على إذن قانوني بذلك، دافع الشاب عن نفسه بصوت متهدج فقال: يا سمو الأمير، أنا شاب بيروتي، من أسرة عرف أفرادها بعمل الخير وبما أن شقيقي يعمل في المملكة، فقد زرته قبل الأعياد وحرصت على جمع بعض التبرعات من رجال أعمال لبنانيين، على أمل إعانة المحتاجين خلال شهر رمضان المبارك، والحقيقة أنني اجهل الأصول المتبعة، ولا أعرف إن كان ما أقوم به يحتاج إلى إذن خاص من وزارة الداخلية. فسأله الأمير سلمان عن حصيلة المبالغ التي جمعها، ولما أعلن عنها الشاب وكشف عن إيصالاتها، تبرع الأمير بمبلغ إضافي يغنيه عن مواصلة البحث عن متبرعين جدد، ثم أمر الشرطيين بالانصراف. وكان واضحاً أن هذا الحادث قد أزعجه بدليل أنه غادر المجلس فجأة، وتوجه نحو مكتبه ليحدث بعض موظفي القصر عن ضرورة الاهتمام بمشكلات اللبنانيين الذين شردتهم ظروف الحرب الأهلية القاسية، ومع تأييده لأداء الشرطة، إلا أنه في الوقت ذاته، طلب مراعاة الوضع الخاص الذي يعاني من تفاعلاته آلاف اللبنانيين الذين قصدوا المملكة بحثاً عن الأمن والعمل”.

كبير المثقفين العرب

وعن زاوية الثقافة في شخصية الملك يتحدث عطا الله: “لكي تُحب الثقافة لا يكفي أن تكون راعياً لها! يجب أن تكون جزءاً منها، الأمير (الملك) سلمان ليس راعياً للمثقفين العرب كما درج القول أو كما اتفق الجميع بسبب مكانته كأمير، ولكن الحقيقة التي لم ننتبه إلى قولها، هو أن الأمير (الملك) سلمان كبير المثقفين العرب، هو لم يرع المثقفين العرب فقط من حيث المساعدات المالية، بل من حيث مشاركتهم الشغف بالثقافة وفي تقدير الثقافة وفي إعلائها المكانة الأهم في حياته وفي حياتهم على السواء، وأعتقد أن المثقفين العرب عندما أرادوا أن يُحدثوا الأمير سلمان بأمر طالما اكتشفوا؛ أنه يعرف أكثر منهم بكثير وأنه يتابع أكثر منهم بكثير، وغالباً ما أدرك الصحافيون كباراً وغير كبار، أنه يتابع كتاباتهم بعين الناقد وبعين الحريص وبعين المتفهم، وهذا هو الأهم – على ما أعتقد – في شخصية الأمير (الملك) سلمان، تلك الرحابة في السياسة وفي الثقافة، في الموقف السياسي وفي الموقف من الاعلام، وهذا ما جعل أهل الإعلام يُحبونه ويُقدرونه ويعتبرون أنفسهم في رعايته الدائمة. أعتقد أن كل كاتب عربي وهو يكتُب يُخيّل إليه أن ثمّة رقيباً راقياً سوف يُحاسبه ذات يوم؛ هو الأمير (الملك) سلمان بن عبد العزيز”.

ويتابع نصار من جهته: “أما بالنسبة إلى رجال الإعلام، فقد ضمت مجالسه العديد من المشتغلين في مهنة البحث عن المتاعب. وكان من الطبيعي أن توفر له هذه الميزة علاقات طيبة حتى لدى معارضي سياسة المملكة، وبسبب متابعاته المتواصلة للمقالات والأخبار، أطلقت عليه الصحافة لقب (أمير الذاكرة) وكان هذا اللقب بمثابة اعتراف علني بقدرته على استذكار كل ما يكتب تقريباً خصوصاً تلك النماذج التي كان يعتبرها تحريضية ومثيرة للعصبيات، لمعارضته الشديدة وبغضه لها، ودعوته الدائمة الى التسامح والوحدة واحترام الآخرين”.

ويوافقهم نظام الدين بقوله: “يتميز الأمير (الملك) سلمان بأنه متابع وقارئ، وكان حينما نلتقي به يناقشنا في مقالات قد يظن البعض أنها أصبحت قديمة، فإذا التقينا به نجده يناقشنا في مقال معين ويقول انه كان جيداً أو ينتقد ويناقش رأي الكاتب باحترام”. ويضيف: “يتابع الأمير (الملك) سلمان كل حدث وكل كلمة ويتابع نشرات الأخبار خاصة نشرة السادسة بتوقيت جرينتش في المحطات العربية، وفي كل وقت كان يدعو إلى العقلانية والحكمة وعدم اللجوء إلى إثارة الفتن، وكم مرة فاجأني بأنه قرأ كتاباً لم يمض على صدوره أسبوع، وهكذا كان ولا زال واسع الأفق”.

ويحسم تويني هذا الجانب قائلاً: “الحقيقة أنه أعطى صورة مختلفة كلياً عن الأمارة والحكم، فالمتعارف عليه أن باقي الأمراء المسؤولين لا يجدون الوقت الكافي لمثل هذه الاهتمامات، إلا أن سلمان ورغم كل المسؤوليات التي على عاتقه كان يهتم ويتابع وهذا ما جعل صورته مختلفة كلياً”. ولا يرجو غسان تويني من الأمير (الملك) سلمان سوى “أن يبقى كما عرفناه”.

أما نظام الدين فينهي حديثه قائلاً: “لقد كنت يا أمير صديقاً للإعلاميين وما زلت، وإن شاء الله تبقى دائماً صديقاً لكل مثقف، وبكل أسف نحن اليوم في عصر تشتت وفرقة وغياب المحبة والمودة بين الناس، وأنت دائماً مثال القدوة الحسنة في جمع العرب وجمع كلمة العرب وخاصة المثقفين، والثقة معقودة بنهجك وخطواتك وقراراتك ومسيرتك القوية”.

ونختتم مع عطا الله كما بدأنا معه: “أحب أن أقول للأمير (الملك) سلمان اننا كلما تقدم بنا العمر يوماً أو سنة كلما ازداد عمق تقديرنا له، وكلما ازداد إدراكنا بما له علينا كأهل للإعلام والثقافة، بما له علينا من فضل ورعاية وسعة صدر، ربما أكون أنا شخصياً الأكثر ديناً للأمير (الملك) سلمان لما رأيته منه خلال السنوات الثلاثين الماضية، ولكنني أستطيع أن أتحدث باسم الكثير من زملائي بأن كل منا يشعر في داخله أنه مدين لهذا الرجل المدرسة، الذي أكرر القول انه يُعَلم من دون أن يعرف أنه يُعَلم بسبب تواضعه وعفويته، ولا يُحب أن يعرف – أيضاً بسبب العفوية والتواضع – ماذا له علينا معظمنا نحنُ معشر الصحافيين والكتّاب من دروس في الموضوعية وفي التسامح وخصوصاً في السلوكيات الأخلاقية الصحافية”.

شارك المقال