بين “نصر غزة” و”النصر الإلهي”

عبدالوهاب بدرخان

كانت مضت أسابيع على القمع الإسرائيلي الوحشي في المسجد الأقصى ومحيطه، وفي حي الشيخ جرّاح، وعلى معركة أرادها بنيامين نتانياهو حاسمةً في تهويد القدس، لكن رأياً عاماً فلسطينياً وعربياً ودولياً تشكّل في الإعلام ومواقع التواصل مبدياً تعاطفاً عارماً مع المقاومة الشعبية السلمية، وإدانةً غير مسبوقة لآلة عنف إسرائيلية لا فارق بينها وبين أي نظام استبدادي فاشي. وكان الملاحظ حينها أن الحكومات جميعاً اكتفت بمواقف لفظية ولم تتحرّك، متوهّمة بأن إسرائيل ستعود تلقائياً إلى رشدها، أو آملةً بمبادرة أميركية لزجرها، ولم تحصل. لكنها تحرّكت جميعاً بعد إنطلاق صواريخ غزّة، وأصبحت متعجّلة انعقاد مجلس الأمن، لكن واشنطن منعته من التدخّل ومنحت الردّ الإسرائيلي ما يلزمه من الوقت كي يردع “حماس” وسائر الفصائل أو يضعفها، إلا أن الأحد عشر يوماً قتلت ودمّرت ولم تردع أو تُضعف. هذا ما اعتُبر “هزيمة” لإسرائيل و”نصراً” لـ “حماس”، تماماً كما انتهت حرب “حزب الله” عام 2006 إلى “نصر إلهي”.

كان هناك “نصر” لأن صواريخ غزّة تزوّدت بأكثر من منطق: فما يجب ردعه فعلاً هو الوحشية الإسرائيلية، ما يجب وقفه فعلاً هو التنكيل بالمصلين في الأقصى وتهجير سكان الشيخ جرّاح، ثم أن “نصرة القدس” تستحق أكثر من التظاهر عند حدود قطاع غزّة حتى لو كلّفت هذا الثمن الفادح. في الحروب السابقة (2008 و2012 و2014) كان الهدف فكّ الحصار عن القطاع، وتأسيس جبهة مسلحة لمواجهة الاحتلال، على غرار جنوب لبنان الذي احتُفل أخيراً بالذكرى الـ21 لتحريره لكنه بؤرة متوتّرة كأنه لا يزال تحت الاحتلال.

ما صنع لـ “النصر” الأخير معنىً أنه لم يكن لغزّة أو للفصائل بل للفلسطينيين جميعاً داخل ما يسمّى “الخط الأخضر” وخارجه، إذ لمسوا أن ما أعاد قضيتهم إلى الوجود هي الصواريخ وليست ديبلوماسية السلطة الفلسطينية. لكنهم مدركون أنهم في حاجة إلى الصواريخ والديبلوماسية معاً. بالنسبة إلى المجتمع الدولي أصبح واضحاً الآن أن شلّ الديبلوماسية والتفاوض الهادف والسعي إلى توظيف السلطة في تضئيل القضية الفلسطينية هي ما استدعى الصواريخ وسيكرّر استدعاءها طالما أن غزّة وفصائلها تُستخدمان في صراع إسرائيلي – إيراني لا علاقة له بإنصاف الفلسطينيين. إذ أن الدولتين شكّلتا وضعاً في غزّة يلبّي طموح “حماس” للسلطة ولا يخدم القضية الفلسطينية في نهاية المطاف، فالعودة إلى المقاومة المسلحة ليست متاحة، بذريعة أن إسرائيل “منسحبة” من قطاع غزّة، وبالتالي معترف لها بـ”حقّها في الدفاع عن نفسها و”عن سيادتها”.

خلال حرب غزّة وبعد “النصر” أعادت “حماس” إلى الواجهة مطالبتها بالاعتراف بها وبشرعيتها كـ “حركة مقاومة وتحرير”، لكن المجتمع الدولي يريد تنسيق المساعدات الإنسانية وجهود إعادة الإعمار مع العنوان الوحيد الذي يعرفه، أي السلطة الفلسطينية، فليس هناك استعداد للتعامل مع “حماس” إلا كـ”سلطة أمر واقع”. صحيح أن انتخابات 2006 منحتها مكانةً وشرعيةً وطنيّتين لكن انقلابها على السلطة في 2007 أفسد هاتين المكانة والشرعية لأنه زرع انقساماً غير مألوف في المجتمع الفلسطيني، ولا تكفي أي ذرائع لتبريره، لأن نتيجته الفعلية كانت مساهمة “حمساوية” استخدمتها إسرائيل في إضعاف السلطة وتهميشها، ولأن “حماس” تواصل البناء على الانقسام ولا تريد إنهاءه إلا بسيطرة كاملة على السلطة.

ما شهده لبنان بعد حرب 2006 لم يكن مختلفاً، فـ “النصر الإلهي” الذي ادّعاه “حزب الله” كان مجرّد عنوان لمشروع السيطرة على الدولة، الذي بدأ باعتصام وسط بيروت وتواصل بغزوة بيروت واستمرّ باختراق المؤسسات واستُكمل بترئيس ميشال عون على الجمهورية، إلى أن أصبح لبنان محكوماً الآن بانقلاب يبحث عن “دستور” يُكسبه شرعية. ولعل التمثّل بـ”حماس” دفع “الحزب” إلى جعل لبنان وطن الفقر والبؤس كي يسهل عليه التحكّم به، تماماً كما هو قطاع غزّة لـ”حماس”. كلاهما واجهة لإيران وغير مرغوب فيهما دولياً. العالم مستعدّ لمساعدة الدولة اللبنانية شرط ألا تبقى أداةً في يد “الحزب”، ومستعدّ لمساعدة غزّة من خلال السلطة الفلسطينية لا بواسطة “حماس”، وفي الحالين يحاول مساعدة اللبنانيين وليس دولتهم المخطوفة، ومساعدة الغزّيين لا سلطة الأمر الواقع.

على رغم كل شيء هناك على الأقل فارق. فالارتباط بإيران لا يسمح لـ”حماس” بإنكار هويتها الفلسطينية – العربية والتزامها قضية شعبها ولو بأيديولوجية انتهازية وملتبسة. أما “حزب الله” فيُخضِع لبنان لمشيئة الوليّ الفقيه ويسخّره للمشروع الإيراني المعادي لمحيطه العربي. هذه هي “قضيّته” التي رمى إليها منذ تحرير الجنوب (احتُفل بعيده في 25 أيار/ مايو)، وقد اختصرها “بوست” فايسبوكي جاء فيه: “إذا تحقّق التحرير فلماذا السلاح؟ وإذا لم يتحقّق فلماذا العيد؟”. الأهداف لم تعد خافية.

 

كلمات البحث
شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً