إجتهادات غير دستورية لدستور يطيح به من أقسم عليه!

زياد سامي عيتاني

تعتبر دساتير الدول، بإجماع الفقهاء القانونيين، هي القانون الأعلى والأسمى في أيّ دولة، حيث يفترض أن تكون جميع النصوص القانونية والقواعد التطبيقية، التي تنظم عمل الدولة بكلّ مؤسساتها الدستورية وإداراتها العامّة، مطابقة وملائمة لدستور الدولة، وبالتالي أيّ قوانين تخالف أحكام الدستور، وإن أقرتها السلطة التشريعية، فإنّها عرضة للإبطال لدى المحكمة المختصة.

فالقاعدة الثابتة، أنّ الدستور هو القانون، يعلو كلّ ما عداه من القوانين، وبالتالي يجب التقيد في تطبيق أحكامه بالأصول التي تحكم تطبيق مختلف النصوص القانونية، بشكل آمر وملزم، من دون أيّ إجتهاد أو تنظير، متى كانت مواده واضحة وحاسمة، ولا تحتمل في تفسيرها أيّ جدل أو إختلاف.

أما في حال بروز حالات إستثنائية (عادة ما تكون نادرة) غفل عنها الدستور، أو يكتنفها بعض الغموض، فإنّ ذلك يقتضي أن يتعاطى المشرّع أو المحكمة الدستورية المختصة، مع هذه الحالات بما لا يتناقض مع أحكام الدستور ومع نصوصه، وذلك من خلال إستنباط إجتهادات تعالج “الثغرة” (في حدود التفسير الاجتهادي الضيق)، من دون التعارض مع الدستور، بل أن تكون مكمّلة له، تحقيقاً للهدف المرجو.

الهدف من هذه المقدمة ليس التنظير القانوني، بل الاضاءة الموضوعية المتجردة على أصول فهم مفاعيل الدستور الإلزامية.

وتبرز أهمية ذلك، أمام التلويح والتلميح من دوائر قصر بعبدا، الى إمكان إنقلاب رئيس الجمهورية قبيل إنتهاء ولايته على الدستور، في حال عجز مجلس النواب عن انتخاب رئيس خلفاً له (تبعاً للمادة 73 من الدستور)، متسلحاً بإجتهادات “جريصاتيّة” غير دستورية بإبطال وسحب التكليف الذي منحته الكتل النيابية، وفقاً للاستشارات الملزمة المنصوص عنها في الدستور، للرئيس نجيب ميقاتي لتأليف الحكومة، خلفاً للحكومة المستقيلة، الملزَمة بتصريف الأعمال!.

فلم يعد خافياً على أحد، أنّ الغاية من هذه الخطوة الإنتحارية، أن يقدم الرئيس ميشال عون على تشكيل حكومة أمر واقع، يكون فيها صهره رئيساً لها بمنصب وزير “فوق العادة”(!)، بعدما فقد أيّ أمل له في أن يخلف عمه، للتجديد للعهد “القوي”، من خلال الرئيس الفعلي هذه المرة (إشباعاً لشهوته وغريزته السلطوية)، طالما أنّ شؤون الرئاسة كانت تدار طيلة السنوات الست، بالوكالة من “ميرنا الشالوحي”!.

إن إصرار الرئيس عون وإمعانه في العبث بالدستور “المنهك” وإزدراء النظام اللبناني”المهدّد”، مرده إلى الرهان الدائم منذ أن وقّع إتفاق “مار مخايل” على شريكه، الذي يجيد بحكم أنه جزء من المحور الذي ينتمي إليه، الافادة من أيّ تحولات أو تطورات إقليمية، من شأنها تغيير قواعد اللعبة، وبالتالي إنعكاسها على الداخل اللبناني، فتعيد إحياء آمال “الصهر المدلل” بالرئاسة، في زمن يكثر فيه الكلام عن حكم الأقليات في المنطقة.

في هذا السياق، السؤال الجدلي الذي يفرض نفسه، يكمن في مدى صلاحية حكومة تصريف أعمال في ملء الشغور في رئاسة الجمهورية، وأن تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية، على أهميتها وخطورتها، في حال حدوثه، (وهذا ما هو مرجح، تبعاً للمواقف الخلافية والمتناقضة حيال الاستحقاق الرئاسي محلياً وخارجياً).

إن الإجابة ببعديها الوطني والدستوري على هذا السؤال، تقطع الطريق أمام أيّ “هرطقة” قانونية تتعلّق بسحب التكليف من الرئيس نجيب ميقاتي، متى اتضح أنّ الدستور يمنح الحكومة المستقيلة وكالة صلاحيات رئاسة الجمهورية، في حال شغورها.

ونظراً الى دقة الموضوع وحساسيته، فإنّ الإجابة تقتضي أن تكون محض قانونية، بعيداً عن أيّ إنفعالات وتفاعلات سياسية.

الجواب على ذلك يكون بالعودة إلى نصوص الدستور، وفقاً للقواعد العامّة في التفسير، وهو ما أشار إليه الدستور في المادة 62 بقولها: “في حال خلو سدة الرئاسة لأيّ علّة كانت، تُناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء”.

ويعزّز هذا التوجه مطالعة قانونية – دستورية للوزير وعضو المجلس الدستوري السابق القاضي الدكتور خالد قباني، عالجت هذه الاشكالية بتأكيده: “يعود للحكومة بل ينبغي عليها أن تستمر بممارسة أعمالها، استناداً الى نصّ الدستور، ووفقاً للمادة 64 فقرة 2، وبالمعنى الضيق لتصريف الأعمال، بما في ذلك المهام المناطة دستورياً برئيس الجمهورية، كما لو كانت حكومة تعمل من دون شغور منصب رئاسة الجمهورية. وفي هذه الحالة يمارس مجلس الوزراء صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة ووفقاً لنظامه، أي وفقاً للنظام المتّبع في جلسات مجلس الوزراء، أو في طريقة التصويت على القرارات، أو في التوقيع عليها، تطبيقاً لما نصّت عليه المادة 65 من الدستور، لأن الحكم الذي يسري عليها، في الحالتين، حالة الشغور في منصب الرئاسة الأولى، أو وجود حكومة تصريف أعمال، هو مبدأ استمرارية عمل السلطات والمرافق العامة الذي رفعه المجلس الدستوري في فرنسا، ومن ثمّ في لبنان الى مرتبة المبدأ الذي يتمتّع بقيمة دستورية، وجاءت الأعراف والسوابق الدستورية في لبنان، لتؤكد على المنحى الذي سار عليه الفقه والاجتهاد”.

وفي السياق نفسه، يعتبر الدكتور زهير شكر في موسوعته القانونية (الوسيط في القانون الدستوري اللبناني) أنه “إذا صادف الشغور الرئاسي وجود حكومة مستقيلة، فإن هذه الأخيرة تسترد كامل صلاحياتها، إن بسبب الحفاظ على إستمرارية المؤسسات الدستورية وتوازنها، أو لأن مرسوم قبول الاستقالة لم يكن صادراً عند الشغور، فلا تترتب على الحكومة أية إلتزامات”.

ومن جهته، يرى الأستاذ محمد فياض مشيك، في مؤلفه “صلاحيات مجلس الوزراء بين النصّ الدستوري والممارسة العملية” أنه “يحق لحكومة مستقيلة أن تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية في حالة الشغور، إستناداً إلى نظرية الظروف الإستثنائية التي تفترض إستمرار المؤسسات الدستورية، إذا كان ثمة ظروف إستثنائية تحول دون إجراء انتخابات جديدة، يمكن لحكومة مستقيلة أن تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية في حالة الشغور. وترمي نظرية الظروف الاستثنائية في جوهرها إلى توسّع صلاحيات السلطات الادارية بالقدر اللازم حتى تتمكن من إتخاذ الإجراءات التي يفرضها الطابع الاستثنائي للظروف. (نشأت هذه النظرية في البداية تحت تسمية “نظرية صلاحيات الحرب” من قرارين لمجلس شورى الدولة الفرنسي مرتبطين بظروف الحرب الأولى)”.

يستفاد من هذه المقاربات لثلاثة من كبار فقهاء القانون في لبنان، أنّ إستمرار حكومة تصريف الأعمال في ممارسة مهامها، وخاصة في ظل شغور سدة الرئاسة، ينسجم مع مبدأ الحفاظ على النظام القانوني، ومبدأ إستمرار عمل المؤسسات العامّة، ومبدأ إستمرار الدولة ذاتها، وتحاشياً للوقوع في الفراغ الدستوري أو في فراغ الحكم، وحرصاً على سلامة الدولة، وسلامة المؤسسات والإدارات العامّة.

أمام المخاطر التي تهدّد لبنان في وجوده، وإزاء هذا الجنون السياسي، لا بدّ من صياغة موقف وطني موحد يتصدى لتطاول رئيس الجمهوريّة وفريقه السياسي والاستشاري على النّظام والدستور ورئاسة الحكومة، ليس بهدف حماية موقع الرئاسة الثالثة وصونها بخلفية مذهبية شعبوبة، بل بهدف إستعادة التمسّك بالدستور، والمحافظة على ما تبقى من نظامنا الديموقراطي البرلماني، الذي وحده القادر على حماية لبنان من أيّ شكل من أشكال “الفدرلة”.

وهنا لا بدّ من موقف وطني تاريخي حاسم في هذا الاتجاه من قبل القادة المسيحيين العقلاء (وهم الأكثرية) الحريصين على لبنان “النموذج والرسالة”، وفي مقدمهم البطريركية المارونية، كما عهدناها في المحطات المفصلية، بحيث أنّ الإكتفاء بموقف المتفرّج على تجاوزات الرئيس عون للدّستور، تحت عنوان “إستعادة حقوق المسيحيين”(!) سيحمل الويلات على المسيحيين والمسلمين على حدٍّ سواء، وإستطراداً على الوطن بأكمله، لأنّ سلوكه المتهور بعيد كلّ البعد عن دوره كحارس للدستور الذي أقسم بالحفاظ عليه.

شارك المقال