عروبة لبنان… ماذا تبقى منها؟

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

كنا نعتقد أن الدستور اللبناني حسم في العام 1989 مسألة كانت مدار جدال وخلاف بين اللبنانيين، لا بل إن البعض كان يعتبرها من مسببات الحرب الأهلية التي دمرت الكيان والدولة، ولم تفلح بدائل الأحزاب هنا وهناك من أن تشكل بديلاً قابلاً للحياة في “الدويلات الطائفية” التي أقامتها خلال تلك الفترة السوداء من تاريخنا، وهذه المسألة هي عروبة لبنان، الذي كان ذا وجه عربي سابقاً وتم حسم هويته في اتفاق الطائف من دون ملابسات في النص. لكن العهد الحالي، الذي لا يعترف بالدستور ضمنا ويتجاوز نصوصه حسبما تأخذه رياح مصلحة حاكم بعبدا وصهره وتياره، يتشاطر من كيس اللبنانيين في ارتكاب الأخطاء التي تهدد باندثار لبنان قريباً كدولة مارقة. فساعة من مينائه يصل “الكبتاغون” إلى دول الخليج والعالم، وساعة أخرى يجتهد العونيون، الذين يدافعون عن الرئيس، في استخدام لغة الشتيمة كتعبير عن عنصريتهم. وهذا الاستهتار في استخدام الألفاظ النابية مرده ليس فقط زلّة ألسن، بل سياسة متعمدة لعزل لبنان عن محيطه العربي وعن عواصم القرار في المجتمع الدولي، دون أدنى اهتمام بالثمن الذي يدفعه اللبنانيون نتيجة هذه السياسات التي تنصب العداء للجميع، ما عدا حلفاء المرشد الروحي للجمهورية العونية.

فماذا بقي من عروبة لبنان اليوم؟
وكيف يمكن استعادة العلاقات الطيبة بالدول العربية؟ لا سيما تلك التي تحتضن اللبنانيين والعاملين فيها منذ سنوات بعيدة، وهي كانت على الدوام تعيد الروح إلى لبنان وتدعمه بمواجهة الصعوبات سياسياً واقتصادياً ومالياً، من دون أن تنتظر مقابلاً سوى احترام العلاقات الديبلوماسية وعدم “التخبيص” خارج الصحن كما يقال؟ أسئلة نحاول الإجابة عنها من خلال وجهات نظر كتاب ومثقفين تحدثوا لـ “لبنان الكبير”.


الغز: تجديد الفكر العروبي
بالنسبة إلى الكاتب السياسي أحمد الغز “العروبة ليست مرتبطة بزمن، بل نراها في محطات تاريخية، تنكفئ وتعود وتتجدد”، معتبراً أنه “في لبنان ليست العروبة هي من تتراجع، بل اللبنانيون الذين يطرحون الفيدرالية والتقسيم من جديد، والعروبة تتقدم بتقدم الفكر، وتراجعها اليوم يعود إلى تراجع دور الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي وتصدع الفكرة بسبب التفكك في المشرق العربي، أي لبنان وسوريا والعراق والحروب التي فيها والمغرب العربي بعيد. العروبة تعاني من الدعوات للانفصال، لا فكرة تجمع العرب، والذين يدافعون اليوم عن الخليج لا يدافعون عن العروبة، بل عن العلاقات التجارية والاقتصادية. إذن الأزمة كبيرة ومن يمكن له تجديد العروبة هم شباب عرب الـ 48 في فلسطين”.

ماذا لدينا اليوم في لبنان؟ يسأل الغز ويجيب: “حتى حرامي أو مجرم محترم ليس لدينا، لا مجرم أو قاتل عليه القيمة، سابقاً كان لدينا مجرم تُكتب عنه روايات، كان يطلق على سوريا قلب العروبة النابض، أين هي سوريا اليوم؟ تدير تجمع أقليات مشرقية. في السابق كان هناك ميشال عفلق مؤسس حزب البعث، وجورج حبش القوميين العرب، وقسطنطين زريق. كان الشيعة في العراق يجددون الثقافة العربية ولهم دور فاعل ومؤثر”.
فمن يتحدث اليوم عن العروبة؟!
هل الوزير شربل وهبه؟
هل الرئيس ميشال عون الذي يعيدنا إلى حكم الحكومتين، ويولد أزمة ميثاقية ودستورية؟
برأي الغز “إننا اليوم في حقبة إسلامية. هناك صعود للتيارات الدينية، العروبة كفكرة مدنية انتهت في 1982، إسرائيل بقيت في لبنان خلال مرحلة ما بعد خروج المقاومة الفلسطينية، وكان عليها أن ترحل عندما خرجت منظمة التحرير من بيروت، ولكن ماذا فعلت؟ أبقت على احتلالها للبنان 18 سنة، وأسست لصعود تيارات إسلامية بالتعاون مع تركيا وإيران، وهذه الدول جزء من حلف بغداد. جاءت حماس في فلسطين، والحوثيين في اليمن، و”حزب الله” في لبنان في إطار صعود المشروع الإسلامي. ولم يعد هناك مشروع عروبي بعد وفاة عبد الناصر. وعندما جاء الرئيس أنور السادات أعاد الإخوان المسلمين إلى الواجهة وأسلم الدولة”.
والخلاصة: “لا مشروع عربياً اليوم. دول الخليج مشروع غير أيديولوجي. آخر مشروع سياسي في الخليج كان في عهد الملك فيصل عام 1973، ذهب ثم دخلنا في نزاعات وحروب أهلية، والشعوب العربية تعاني من تفكك اقتصادي اجتماعي. هناك شيء زال”.

– هل هذا نَعيٌ للعروبة اليوم؟
يجيب الغز: “أنا لا أنعى العروبة. العروبة خلاصٌ لنا، بما هي مشروع جامع يحل أزمة، لقد رفضوا في السابق انتخاب النائب مخايل الضاهر رئيسا للجمهورية لأنه من خارج القائمتين. ولم يتعاطوا مع الرئيس إلياس الهراوي لأنه من زحلة وليس من جبل لبنان، هناك من يستخدم اليوم تعبير نظام المصلحة العربية، وهو تعبير مهين جديد. العروبة هوية. الرواية والشعر والأدب والقرآن (إنّا أنزلناه قرآنا عربيا). أنا أقول بأهمية تجديد الفكر، ليس دفاعاً عن العروبة فقط، بل لأن العروبة ميزتها التنوع، لا عرقية ولا قومية. هي هوية جامعة، قبلت التنوع بداخلها.


الزغبي: حرف لبنان عن عروبته محاولة فاشلة
الكاتب والمحلل السياسي إلياس الزغب يعتبر أن “عروبة لبنان حالة كيانية وليست مسألة ظرفية أو استنسابية. يكفي أنها وردت في مقدمة الدستور، بما تعنيه المقدمة من موقف تاريخي دائم اتفق عليه اللبنانيون. ففي مقدمة الدستور هناك نص يقول لبنان وطن نهائي عربي الهوية والانتماء. إذن لبنان هو عربي بهويته وانتمائه. أي هو وطن ينتمي إلى البيئة العربية والعالم العربي. إلى جامعة الدول العربية، وهو أحد مؤسسيها القلائل في الأربعينيات”.
يقول الزغبي: “أي محاولة لحرف لبنان ولأخذ لبنان في اتجاه غير بيئته العربية وغير هويته وانتمائه هي محاولة فاشلة حكماً، قد يبدو أحياناً أن إيران استطاعت اختراق بعض الدول العربية، وهي تتباهى بأنها تحتل أربعة عواصم عربية، بينها بالطبع بيروت. ولكن في الحقيقة هذا الاحتلال هو احتلال مؤقت، ومهما طال الزمن، فلبنان عائدٌ حكماً إلى مجاله الحيوي العربي وإلى انتمائه وهويته، ولا أحد يستطيع أن يغير هذه الهوية إلا إرادة أبنائه مجتمعين، وليس بإرادة فئة معينة، وربما مضللة كما يحصل الآن في بيئة حزب الله هي عملية تضليل مؤقتة”.
يؤكد الزغبي: “لا بد من أن تعود الطائفة الشيعية إلى كيانيتها اللبنانية وإلى عروبتها، وهي مذهب وطائفة عربية في الأساس، وهذا ما نلاحظه في العراق مثلاً، حيث هناك أكثرية شيعية ولكنها تنتمي إلى الوطنية العراقية العربية أكثر من انتمائها إلى الحالة الإيرانية المستندة الى ما يسمى ولاية الفقيه. فآية الله السيستاني رمز تاريخي يعبر عن هذا الانتماء الوطني العربي في العراق، وكذلك هناك شخصيات تاريخية في الطائفة الشيعية اللبنانية، منها السيد موسى الصدر، ومنها العلامة الشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدين، والعلامة الراحل محمد حسين فضل الله، وشخصيات وفاعليات كثيرة وقادة رأي ومثقون من الطائفة الشيعية يريدون أن يكون الشيعة اللبنانيون ينتمون إلى وطنهم لبنان أولاً، وإلى بيئتهم العربية وانتمائهم العربي ثانياً، لذلك فإن كل المظاهر الطارئة على عروبة لبنان ليست سوى غبار يلحق بالوضع اللبناني الآن، ولا بد لهذا الغبار من أن ينقشع وتعود الهوية العربية اللبنانية جلية وواضحة وحاسمة”.


فياض: أين المنطق في العداء للعرب؟
حدد مؤتمر الرياض في العام 2007 العروبة بأنها رابطة ثقافية حضارية تجمع هذه المنطقة، وتفسر الباحثة منى فياض ذلك بالقول: “نحن جميعاً هنا نتحدث لغة واحدة هي اللغة العربية مهما تعددت اللهجات وطريقة لفظها، وهذا أمر نادر في العالم، ففي الصين هناك أكثر من 400 لغة، وفي أوروبا اللغات متعددة، نحن منطقة ممتدة جغرافياً، وفيها عدة دول تحكي اللغة نفسها. اللغة ليس فقط أداة مخاطبة، بل هي تاريخ، والكلمات تعبر عن كيانات، الكلمة هي جزء من ثقافة وحضارة. وبهذا المعنى، نحن لدينا ثقافة واحدة، لقد مرَّت على هذه المنطقة شعوب كثيرة، ونحن نحمل تراث كل هذه الشعوب وحضاراتها، وبتنا من 1500 سنة أو 400 سنة كلنا نحكي لغة واحدة، وبالتالي يصبح بيننا رابط قوي سواء وعينا هذا أم لا، قبلناه أم لا”.
نشأ “لبنان الكبير” في العام 1920، وبحسب ما يُروى فإن المسلمين كانوا يحنون للخلافة العثمانية، ولكن بعد هزيمة السلطنة العثمانية وتفرق بلدان المنطقة بفعل اتفاقية سايكس بيكو نشأت دول جديدة. وبرأي فياض إن “هذه الدول الجديدة لم تكن معتادة على بناء وطن، فبقي هناك حنين عند بعض المسلمين للعودة إلى رابطة تجمعهم في خلافة إسلامية جديدة، وعندما لم تحصل، فكروا بمساعدة الموارنة بالقومية العربية، لأن القومية كانت “دارجة” في أوروبا. المسيحيون كانوا مساهمين بنشوء فكرة القومية العربية والأوطان العربية وانشغلوا بإبراز مفهومها، خلال مرحلة الاستقلال في 1943 صار هناك تجاذب بين الطوائف، وعند الإعلان عن استقلال لبنان اتفق الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح على ميثاق العيش المشترك، أي لا شرق ولا غرب، أي يرضى المسلمون بلبنان ولا يطالبون بأي وحدة، لا مع سوريا أو غيرها. ولا يقبل المسيحيون ببقاء الانتداب. بمعنى تحييد لبنان”.


ولكن في الحرب الأهلية تم ضرب العيش المشترك. لماذا؟ تشرح فياض: “كانت هناك أطراف داخلية لبنانية تستقوي بالخارج. في المرة الأولى دخل الفلسطينيون بسبب اتفاق القاهرة، استقوى المسلمون بواسطة الفلسطينيين على المسيحيين الذين شعروا بضعف، فأحضروا حافظ الأسد. هذه التجاذبات تسببت بحرب، ولكن ظهر أنه في كل مرة يخرج لبنان عن حياده، يستقوي طرف داخلي بطرف خارجي ليحصل على مكاسب داخلية خاصة، حسم الدستور هوية لبنان كبلد عربي ونهائي لجميع أبنائه، وكان جورج نقاش عبر سابقا عن مقولة “لا شرق ولا غرب” بالقول إن سلبيتين لا تصنعان وطناً، في حين أن الطائف كان إيجابياً في تكريس عروبة لبنان”.


عن الواقع في ممارسة عروبة لبنان، تؤكد فياض: “لا يمكن لأي شخص من رئاسة الجمهورية إلى غيره في لبنان العودة إلى نغمة بلد غير عربي، أو يهين الدول العربية، أو يتسبب بأذى لها، أو يعمل أحلافاً على حساب مصلحة النظام العربي. فهذا خرق للدستور، لأن الدستور يقول إن لا شرعية لأي سلطة تناقض العيش المشترك. لبنان عربي وليس بلداً إيرانياً، وبالتالي لا يحق لأي شخص أن يؤذي علاقاتنا بالدول العربية، فلا يعود لبنان محايداً”.

تستحضر فياض مرحلة الرئيس جمال عبد الناصر عندما أكد على حياد لبنان في الصراع العربي – الإسرائيلي، معتبراً إياه “بلد مساندة وليس بلد مواجهة”. واللبنانيون يقفون إلى جانب الإجماع العربي في المنابر الدولية، وبالتالي اليوم فإن أي طرف لبناني يسيء إلى علاقتنا بالدول العربية ويضر بالمصلحة العربية ويحارب العرب سواء بميليشيا أو بموقف، فإنه يناقض الدستور، وأي موقف يؤذي العيش المشترك بحسب الدستور لا شرعية له، يعني الخيانة”.
وتشدد: “نحن عرب. لا يمكن أن نكون عرباً عندما نريد، وعندما لا نريد لا نكون عرباً، مهما كانت أصولنا.. فينيقية أو كنعانية أو غساسنة، أكراداً أم أرمن. حتى الصليبيين الذين تركوا أثرهم هم جزء من تراثنا، دخلوا بجيناتنا، فالعلوم الحديثة تؤكد أن السلوك اليومي يسجل بالجينات”.

تؤكد فياض: “نحن مع بلد حر مستقل ومحايد، كما أسس منذ بداية انطلاقته. وكل المحطات التي مررنا بها من ازدهار وتطور ونماء، حدثت في الأيام التي كان فيها لبنان على حياد ومحافظ على علاقات جيدة مع الجميع. وعبد الناصر عندما اجتمع مع فؤاد شهاب لترسيم الحدود بين سوريا ولبنان. كان يحافظ على حياد لبنان وسيادته وعدم جر لبنان إلى أي تناقضات داخلية. لكن البعض يقوم اليوم بإدخالنا في صراعات وتناقضات، ويتسبب لنا بالأذى، فماذا يفيدنا قطع علاقاتنا مع الدول العربية محيطنا الحيوي؟! فهل منتجاتنا الزراعية تباع في إيران أو في الصين مثلا؟! فأين المنطق في التسبب بالعداء وعدم رؤية مصلحة المواطن والبلد؟”.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً