“أفلح إن صدق”

صلاح تقي الدين

لم ولن يتمكن رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل من إقناع اللبنانيين بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم، طبعاً باستثناء أتباعه وأنصاره المغشى على عيونهم وعقولهم، بنيته “الصادقة” في المحافظة على الدستور واتفاق الطائف والاقتناع بهوية لبنان العربية، فتاريخ ممارساته السياسية تفضح المستور وتنفي ما صرّح به بعد خروجه من دار الافتاء حيث اجتمع مع وفد من تياره بسماحة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان.

لا شك أن البيان الذي صدر عقب اجتماع النواب “السنة” في دار الافتاء تلبية لدعوة المفتي دريان شكّل مفصلاً رئيساً في تحديد وجهة المسار الذي يجب أن يكون عليه لبنان بالنسبة الى عمقه العربي وانتمائه الطبيعي إلى محيطه، وهذا البيان جاء وطنياً بامتياز وكان له وقعه المدوي الأمر الذي دفع باسيل إلى المسارعة لطلب موعد للقاء سماحة المفتي للثناء على الموقف الذي أعلنه بنفسه.

غير أن القاصي والداني يعلم علم اليقين بأن خطوة باسيل على الرغم من أنها طبيعية لكنها جاءت في توقيت مشبوه، إذ أن تاريخه السياسي في التعاطي مع دار الافتاء ومحاولة “تهميش” الدور الوطني لاحدى أهم الطوائف المكونة للبنان من خلال الاستعلاء والاستقواء على موقع رئيس الحكومة “السني” لا يمكن محوه بعبارات منمّقة ومنتقاة في تصريح يدلي به من على باب الدار.

هل يجب العودة بالتاريخ إلى بداية نشوء “العونية” السياسية لكي يستذكر اللبنانيون كيف كان تعاطي الرئيس ميشال عون وصهره باسيل مع موقع الرئاسة الثالثة، بدءاً من الرئيس الشهيد رفيق الحريري وصولاً إلى آخر المطاف مع الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي، من حيث فرض الشروط وفرض “المشاركة” في تشكيل الحكومات؟ وهل ينسى اللبنانيون كلمة عون الشهيرة “كرمال عيون صهر الجنرال” كدليل على عدم إقامة أي اعتبار للدور الدستوري المنوط برئيس الحكومة المكلف تشكيل الحكومة؟

وهل يجب العودة إلى يوم إجماع اللجنة العربية على ضرورة وقف الحرب الأهلية اللبنانية ودعوة نواب مجلس العام 1972 للتوجه إلى مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية للبحث في تعديل الصيغة الدستورية التي كان معمولاً بها، وكانت من أحد أسباب الحرب التي طال أمدها، والمواقف المتعددة التي أطلقها عون في معارضة اجتماعهم خارج لبنان، وكان حينها مستقوياً بالصلاحيات التي جعلت الرئيس السابق أمين الجميل يصدر مرسوماً لتعيينه رئيساً لحكومة انتقالية مهمتها الوحيدة تأمين انعقاد مجلس النواب لانتخاب رئيس يخلفه بعدما تعذّر عليه ذلك؟

ولو اكتفى عون حينها بالبيانات والخطابات المعارضة لاجتماع الطائف لكان الأمر هيناً، الا أن التهديدات التي أطلقها بحق النواب المسيحيين المقيمين في المنطقة الشرقية آنذاك كانت فاضحة وتكشف عن رغبته ونيته في عدم السماح بعقد جلسة لمجلس النواب لانتخاب رئيس لا يكون الحرف الأول من اسمه ميشال عون.

أيضاً وأيضاً، ألم يعلن حل مجلس النواب لكي لا يقوم بواجبه بالمصادقة على وثيقة الوفاق الوطني التي أضحت دستوراً فشنَّ حربين خاسرتين ومدمرتين بحق اللبنانيين وبحق الدولة ومؤسساتها، كل ذلك لأنه لم ينتخب في حينه رئيساً واضطر للهروب من قصر بعبدا الذي احتله وتحصّن فيه، عقب تدخل سلاح طيران جيش النظام السوري ولجوئه إلى فرنسا في منفى اختياري؟

ثم جاءت الصفقة الشهيرة التي عقدها عون مع النظام السوري والرئيس السابق اميل لحود لكي يعود إلى لبنان وينخرط في العمل السياسي مجدداً ويترشّح إلى الانتخابات وفقاً لدستور الطائف الذي رفضه منذ البدء، وكيف انخرط في اتفاق مع “حزب الله” لكي يؤمن له طريق الوصول إلى بعبدا تحقيقاً للحلم الذي لم يتمكن من تحقيقه إلا في العام 2016.

وخلال ولايته، ألم يحاول عون وصهره اعتبار الدستور مجرد وجهة نظر مستعيناً بخبرات وفتاوى مستشاره الأول الوزير السابق سليم جريصاتي لكي يمعن في مخالفة الدستور الذي أقسم اليمين على حمايته والدفاع عنه، وخوض المعارك الوهمية تحت حجة استرجاع حقوق المسيحيين التي سلبها منهم اتفاق الطائف؟

ألم يحاول ولا يزال، التذرّع بالبند الرابع من المادة 53 من الدستور التي تنص على أن “رئيس الجمهورية یصدر بالاتفاق مع رئیس مجلس الوزراء مرسوم تشكیل الحكومة ومراسیم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم”، لكي يصبح شريكاً مضارباً في التشكيل فإن لم تأت الحكومة المقترحة من الرئيس المكلف لتلبي طموحاته وطموحات صهره فإنه لا يوقع مراسيم تشكيلها؟ وهو لا يزال لغاية اليوم وعلى الرغم من الظروف المأساوية التي تعيشها البلاد، يمنع ميقاتي من تشكيل حكومة ما لم يكن يحتفظ فيها باسيل بعدد من الوزراء يجعله متحكماً بقراراتها وإدارتها خصوصاً في ظل الشغور الرئاسي المحتمل في 31 تشرين الأول المقبل بعد انتهاء ولاية الرئيس عون.

ألم يكن الصهر الميمون وزيراَ للخارجية الذي خرّب علاقات لبنان الطبيعية مع محيطه العربي وتحديداً دول الخليج العربي التي لها الفضل المشكور دائماً في الوقوف إلى جانب لبنان في كل أزماته، كرمى لعيون الداعم الرئيس له ولسياساته “حزب الله” الذي لم يوفّر مناسبة للتهجّم على حكام دول الخليج العربي إلا واستغلها؟

ثم يأتي باسيل لزيارة دار الافتاء ليعلن بعدها: “أتينا لنؤكد وقوفنا الى جانب المفتي في كل الكلام الذي صدر لا سيما لناحية الدستور ووثيقة الطائف التي نتمسك بتنفيذها لناحية اللامركزية وانشاء مجلس شيوخ والغاء الطائفية”.

وأشار إلى أن “لا خلاف على هوية لبنان العربية ونحن متيقنون أن لبنان بحاجة الى احتضان دائم من ​الدول العربية​، وعدم تدخّلها بشؤوننا يحتم علينا رفض التدخل بشؤون أي منها إذ لا قدرة لنا على ذلك، ونحن نريد الحفاظ على علاقاتنا مع الدول العربية لما فيه مصلحة لبنان في العيش بسلام في محيطه العربي، ولا مصلحة للبنان في التدخل الخارجي حفاظاً على سيادته واستقلاله”.

كيف يمكن تصديق مثل هذا الخطاب “الافلاطوني”؟ فهل اعتقد باسيل أنه سيتمكن من إقناع اللبنانيين بأنه انقلب على تاريخه وتاريخ عمه في معارضة الطائف، وأنه أصبح اليوم مقتنعاً بضرورة التمسك بالدستور ووثيقة الوفاق الوطني التي أنهت حرباً أهلية مكلفة، أم أنها لا تخرج عن مساره السياسي المعروف بـ “الديماغوجية” والتقلبات بين ليلة وضحاها؟

في جميع الأحوال، وعلى ما يقول المثل الشعبي “أفلح إن صدق”، فعسى أن يكون باسيل صادقاً على الرغم من الكثير من الشكوك حول ما في داخله.

شارك المقال