المراجعة: بشير الجميل بين الحلم والوهم!

إيلي حليحل
إيلي حليحل

يُعتبر الرئيس الشهيد بشير الجميّل الشخصيّةَ اللبنانيّة المسيحيّة الأبرز منذ نشوء دولة لبنان الكبير العام 1920، وقد يكون من أهمّ القادة الموارنة في التاريخ الحديث والمعاصر.

نعم هو شهيد شأنه شأن كلّ من آمن بقضيّة ودافع عنها حتّى الشهادة، بصرف النظر عن عقيدتنا السياسيّة ومنطلقاتها.

ألتزمُ في استعادة مسيرة بشير الموضوعيّة والتجرُّد، من أجل الولوج إلى عقيدته السياسيّة ورؤيته الوطنيّة الراسخة إلى يومنا هذا في ذهن شريحة واسعة من اللبنانيّين. هي جديرة بدراسة معمّقة، لاستخلاص العِبر منها، ورسم ملامحها الرئيسيّة .

أربعون عاماً على رحيله ولا يزال بشير رمزاً يُستدعى في المحطّات المفصليّة المُتّصلة باستقلال لبنان وحياديَّته. وانطلاقاً ممّا تقدّم، أيُّ لبنان ذلك الذي أراده بشير وقضى في سبيله؟

ملامح الخطاب

هل يملك اللبنانيّون صورة واضحة عن فكر بشير السياسي والوطني؟ أم أنّ الغرائز الطائفيّة والأخطار المحدقة بهم آنذاك هي التي دفعت المسيحيّين الى الانخراط في المقاومة تحت قيادة بشير؟ وأخيراً هل امتلك بشير نفسه تصوّراً كاملاً للبنان الدولة لفترة ما بعد الحرب؟

ترعرع بشير في بيتٍ وطني فانتسب الى حزب “الكتائب اللبنانيّة” الذي أسّسه والده بيار الجميّل، وأصبح القائد العسكري لهذا الحزب بُعَيْد اندلاع الحرب.

كان يرى في الوجود الفلسطيني، لا سيّما المسلّح، الخطر الأكبر على وجود لبنان، وبالتالي على الوجود المسيحي، فقد ربط بشير وجود لبنان بوجود المسيحيين فيه، وهو أمرٌ بديهي.

تحالفت الجبهة اللبنانيّة بادئ الأمر مع النظام السوري، فدخل الجيش السوري (رسميّاً) لبنان لدعم الأحزاب المسيحية وعلى رأسها حزب “الكتائب” في مواجهة الفلسطينيين والجبهة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط. نجحت الميليشيات المسيحيّة في إبعاد الفلسطينيين والانتصار عليهم عسكرياً في المناطق الواقعة شرقيّ بيروت، ويُسجَّل لبشير وللشهداء الذين سقطوا في هذه المعارك إنقاذ المسيحيين من خطر القضاء على وجودهم السياسي.

اضطرّ بشير لاحقاً الى مقاومة الاثنين معاً، رفضاً لأيّ إحتلال أو وصاية خارجية، فطرد الجيش السوري خارجَ “المنطقة الشرقية”.

عبر التصفية الدمويّة، حذف الميليشيات الميسيحيّة الأُخرى، وحَّدَ البندقيّة، أسَّسَ على أنقاضها “القوّات اللبنانيّة”، وأمسكَ وحيداً منفرداً بالقرار المسيحي اللبناني.

توجَّس بشير من سائر اللاعبينَ على الساحة اللبنانيّة وفي مقدّمهم الأميركيّون، مدركاً آنذاك خطورة المؤامرة التي تحاك على لبنان، خصوصاً لجهّة توطين الفلسطينيين.

أسئلة لا بد منها

حقيقةً لا أعلم مدى إدراك بشير لعمق العلاقة الاستراتيجية التي ربطت ولا تزال الأميركيين بدولة إسرائيل، حين أقام علاقة وثيقة مع الاسرئيليين ما لبثت أن تطوّرت إلى تحالف. هل أدرك بشير خطورة السياسة الإسرائيلية حيال لبنان؟ أم أنّ الصعوبة الميدانيّة التي عانى منها بشير إبّان مواجهته للسوريين والفلسطينيين والمسلمين اللبنانيين هي التي دفعته بإتّجاه إسرائيل؟

عموماً هذا رأي غالبيّة المسيحيين، فحماية المسيحيين تبرّر أيّة علاقة حتى ولو كانت مع الشيطان. في المقابل يحقّ لنا أن نطرح سؤالاً، اذا كان لا بد من إقامة علاقات أو تحالفات سياسية وعسكرية مع الخارج، كيف وجد بشير مصلحةً للمسيحيين مع كيان عنصري، لا يؤمن بالتعدّدية، ولم يجد ذلك مع النظام السوري، الذي وعلى الرغم من طابعه التوتاليتاري هو ذو توجّه علماني، تقوده أقليّة مذهبيّة (العلويّون)؟

على كلّ حال، تورّط بشير بتحالفٍ مع إسرائيل، وقد ذهب البعض إلى حدّ اعتباره قد ورّط أو استدرج الإسرائيليين لاجتياح لبنان في صيف العام 1982، وما لبث أن تنصّل من التزاماته حيال إسرائيل بعد وصوله إلى سدّة الرئاسة على دبابتها. انتظرت القيادة الإسرئيلية دعم بشير لها في حرب بيروت (في مواجهة الفلسطينيين)، كذلك انتظرت اتفاقية سلام مع لبنان، إضافةً إلى ما يشبه إعلانه وطناً قوميّاً مسيحيّاً، يجتذب الأقليّات المسيحية من الدول العربية الأخرى.

حتّى وإن لم يلتزم بشير بذلك صراحةً، إلاّ أن خطابه السياسي وخطاباته كانت توحي بذلك، فقد تناول موضوع الأقليّات المسيحيّة العربيّة في العديد من خطبه.

استشهد بشير وكان على المسيحيين أن يتحمّلوا وزر أخطائه الاستراتيجية، فقد عمدت إسرائيل إلى معاقبة المسيحيين عبر تهجيرهم من معظم الأطراف إلى المنطقة المسمّاة “شرقيّة” آنذاك. كذلك عانوا من اضطهاد سياسي سوري استمرّ حتّى جلاء الجيش السوري عن لبنان عام 2005. ناهيك عن اتّهام المسيحيين بالعمالة لمصلحة إسرائيل حتى تاريخه.

نسألُ أيضاً، هل تُبرِّر الشعارات كالسيادة والحرية والإستقلال والعنفوان وسواها، الخيارات الاستراتيجية الخاطئة؟ أو لم تدفع هذه الشعارات بالمسيحيين إلى مواجهة قوى كبرى لا طاقة لها على تحمّلها، فانتهت بهم إلى ما يُشبه الانتحار الجماعي؟

لا يمكن لوم بشير على ثقافته السياسيّة أو الوطنية السائدة آنذاك، تلك التي كانت وما زالت تعتبر لبنان جزيرةً منعزلةً عن العالم العربي، تحت ستار الحريّة والسيادة والاستقلال. بسببها نُعِتَ مسيحيّو المنطقة “الشرقية” بالانعزاليين، وقد أُرغموا في اتّفاق الطائف على الإقرار بعروبة لبنان الكاملة. الجديرُ ذكرهُ في هذا السياق، أنّ المدافعة عن القضايا العربية لا تتعارض بتاتاً ومفهوم السيادة، بل على العكس هي تحمي لبنان من التدخّل الخارجي والأطماع الخارجية.

إنّ السلاح الفلسطيني ما كان إلاّ السبب المباشر، الشرارة لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان، أمّا السبب الحقيقي فهو النظام الطائفي المجحف بحقّ فئة كبيرة من اللبنانيين (المسلمون)، فضلاً عن الزواج بالإكراه في دولة لبنان الكبير. ودليلنا على ذلك، حاليّاً، هو استشراس شريحة واسعة من المسلمين في الدفاع عن لبنان واستقلاله، لأنّهم باتوا جزءاً من نظامه السياسي.

ملامح دولة

يُجمع معاصرو بشير على أنّه كان صاحب القرار الوحيد على الساحة المسيحية، كان يستمع إلى معاونيه وقلّما أخذ بمشورتهم، وما كان على الآخرين إلاّ الاصغاء والتنفيذ.

تكلّم بشير كثيراً عن الدولة اللبنانيّة والنظام السياسي اللذين أرادهما، وطرح جملةً من الإصلاحات الواجب إحداثها لولادة الدولة العصريّة التي حلم بها.

في ما خصّ الإصلاحات الإداريّة ومحاربة الفساد لم يأت بجديد، ولكن ينبغي الإقرار بأنّ نظرته أتت شاملة وما يتناسب مع المرحلة التي عاصرها.

أمّا على صعيد النظام السياسي، فقد لاحظ سقوط صيغة 1943، وارتأى ضرورة استبدالها، كونها جرّت الخراب على لبنان، ولكنّه عاد ليطرح إجراء تعديلات على بنيتها الداخليّة المتداعية، والتي أدّت إلى سقوطها عند أوّل محنة. للأسف إن صيغة الـ43، لم تكن أكثر من صفقة أو تسوية مناسبة لذلك الظرف ولم تكن صالحة لبناء دولة حقيقية، حتى أولئك الذين أقرّوها لم يقتنعوا بها فعليّاً، ذلك أنّ قسماً كبيراً من اللبنانيين لم يؤمن أصلاً بوجود الكيان اللبناني المستقلّ، والقسم الثاني مارس فيه سياسة بناء المزرعة.

أراد بشير أن يبني جيشاً قويّاً يدافع عن لبنان، يتألّف هذا الجيش من الأفراد الذين آمنوا بلبنان على طريقته نستنتج، أنّ هذا الجيش كان ليتألّف من غالبيّة مسيحيّة، لأنّ الطوائف الإسلاميّة كانت على خلافٍ بيّن معه، ووجودها داخل هذا الجيش كان سيضعف بنيته الداخلية.

طرح بشير اللامركزية السياسية والفيدرالية بصورة ملتبسة، فمن جهّة وجد فيها طرحاً واقعيّاً، ومن جهّة أخرى كان متوجّساً من تحوّل لبنان إلى كانتونات طائفيّة لكلٍ منها عقيدتها السياسية وفهمها الخاص لتاريخ لبنان، كذلك مشاريعها الخارجية الخاصة.

في نهاية الأمر ترك بشير للبنانيين لاسيّما المتخصصون منهم حرية التفاهم على التقسيمات، فكان يدعو إلى حكم مركزي قويّ، ويتطلّع في الوقت عينه إلى النماذج الفيدرالية والاتّحاديّة. يبدو لنا أنّ بشير لم يصل حينها إلى نضجٍ سياسي كامل في ما خصّ لبنان ما بعد الحرب.

لم يكن وهماً

في المحصّلة، لم يطرح بشير حلاًّ كاملاً للقضيّة اللبنانيّة، ولم يتطرّق أبداً الى موضوع إلغاء الطائفية السياسية، على الرغم من انتقاده العنيف للبنان المزارع الطائفية. وعلى الرغم من اقتناعه بأنّ الدستور العلماني للبلاد يتناقض مع التوافق والعرف، إلا أنّه لم يطرح بديلاً. وفي حين تكلّم بشير على المساواة بين المواطنين، نجده في عدّة مواضع مدافعاً عن لبنان ملجأ المسيحيين، وأراد بناء الدولة على هذا القياس، وهو أمر غير مقنع.

في المقابل، لا بد من التنويه بالنقاط الرؤيويّة الصحيحة في حلم بشير:

أوّلاً: قناعة بشير الراسخة لدى انتخابه رئيساً بوجوب انسحاب الجيوش كافة من لبنان، عدوَّةً كانت أو صديقة.

ثانياً: نزع سلاح الميليشيات وحصريّة السلاح بيد الشرعيّة.

ثالثاً: عودة بشير إلى الحضن العربي فور انتخابه، وتحديداً عبر تواصله مع دول الخليج.

رابعاً: التزامه قرارات الأمم المتّحدة، وحياد لبنان.

آمن بشير أيضاً، بدور المسيحيّين الريادي، الذي لا يقتصر على المشاركة في القرار السياسي، إنّما يتجاوزه إلى ما هو أبعد وأهمّ بكثير. وكأنّه استبق ما جاء في السينودس الفاتيكاني العام 1997، لجهة تحميل المسيحيّين مسؤولية المحافظة على لبنان الرسالة، لبنان العيش المشترك والتفاعل والتكامل مع المحيط العربي وحضاراته.

شارك المقال