أهي دعوة للتوافق أم “بروفة” لادارة الفراغ؟

زياد سامي عيتاني

باغت رئيس مجلس النواب نبيه بري جميع القوى السياسية الممثّلة في البرلمان، عندما دعا بصورة مفاجئة الى عقد جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية، (على الرغم من كل تأكيداته المسبقة على عدم الدعوة إليها ما لم يتمّ التوافق على رئيس إجماع)، في وقت كانت الاتصالات السياسية محلياً وخارجياً تتركّز على محاولة إعادة تعويم حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، بعد إدخال تعديلات على عدد من الحقائب والأسماء، لتنتقل إليها مجتمعة بالوكالة صلاحيات رئيس الجمهورية، في حال شغور الموقع بإنتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، سنداً للمادة 63 من الدستور، (وهذا ما يجمع عليه المراقبون والمتابعون، بسبب التعقيدات الخلافية العميقة التي تسود الاستحقاق الرئاسي).

بعيداً عن الدوافع والخلفيات السياسية التي دفعت الرئيس بري الى إخراج “أرنب” عقد جلسة لإنتخاب رئيس للجمهورية، فإنه وبتحريكه الملف الرئاسي، والذي هو من واجباته الدستورية، حاول الإيحاء بأنّه يستبق الفراغ الدستوري، بمحاولة عدم حصوله، بدلاً من البحث المسبق عن كيفية إدارة الفراغ، في هذه اللحظة الاستثنائية من تاريخ لبنان المهدد وجودياً، مع زيادة وتيرة الخطابات الطائفية والمذهبية وتناميها على وتر “الفدرلة” وسواها من طروحات أقل ما يقال فيها، إنّها محاولات جديّة وحقيقية لدى البعض للعودة إلى خيارات التقسيم الطائفي والمذهبي.

أياً تكن أهداف الرئيس بري، فإنّه بلا شك، أراد أن يحشر الكتل النيابية ومن خلالها القيادات السياسية والروحية التي كانت تنتقده لعدم توجيهه الدعوة الى عقد الجلسة، عندما كان يراهن على إمكان تأمين توافق داخلي وخارجي على اسم رئيس يتمتع بالصفات والمواصفات التي تتطلبها المرحلة، تخوّله الحصول على إجماع يمنحه العدد المطلوب من الأصوات، من دون إستفزاز من لن ينتخبه، مما سيمكّنه من الشروع الفوري في إطلاق عملية الإنقاذ.

وفي موازاة وضع الرئيس بري القوى السياسية المحلية أمام مسؤولياتها الوطنية، فإنّه أيضاً من خلال دعوته المجلس النيابي الى انتخاب الرئيس، دفع عواصم القرار الدولية والاقليمية، وتحديداً الدول المعنية بالملف اللبناني الى الخروج عن إطار العموميات في التعاطي مع الاستحقاق الرئاسي، والدخول الفعلي في عملية مشاورات وإتصالات جديّة ومنتجة في ما بينها، لإعطاء إندفاعة من شأنها تسهيل الإنتخاب في موعده الدستوري، خصوصاً في أعقاب البيان المشترك الأميركي – الفرنسي – السعودي، الذي شدّد على ضرورة إجراء الإستحقاق الرئاسي في موعده، مما يؤشر إلى أن الدول الثلاث المعنيّة بالوضع اللبناني، ترفض كلّ المحاولات الاستباقية لإدارة الفراغ، والتأكيد على حتميّة انتخاب رئيس للجمهورية من خارج الاصطفافات والإنقسامات السياسية، حتى لا يكون نسخة طبق الأصل عن عهد الرئيس عون.

بالتأكيد لم يكن أحد يتوقع إنتخاب الرئيس خلال الجلسة الأولى، لعدم نضوج الظروف والمعطيات الإنتخابية بشقيها الداخلي والخارجي، لاسيما وأنّ الكتل النيابية بكل توصيفاتها السيادية والتغييرية والموالية، لم تتمكّن من التوصل إلى توافق على إسم مرشحها للرئاسة، لتخوض به غمار الانتخابات، خصوصاً في غياب الضوء الأخضر الخارجي بشأن الاستحقاق، حتى لا نقول “الاملاءات”، على الرغم من حركة الاتصالات الواسعة التي يقودها بصورة لافتة عدد من السفراء.

عدم نضوج “الطبخة” الرئاسية ظهر جلياً في جلسة مجلس النواب، على الرغم من توافر النصاب القانوني، وذلك من خلال التشرذم بين القوى “السيادية” و”التغييرية” من جهة، ومن جهة أخرى تصويت قوى الموالاة بالورقة البيضاء، كدليل على أن “حزب الله” الذي يقود هذا التحالف لم يتبنَّ أياً من مرشحي التحالف (جبران باسيل وسليمان فرنجية)، إما لعدم تمكّنه من إقناع أحدهما بالانسحاب للآخر، أو لعدم رغبته حتى الآن في حسم خياراته، إبقاءً للمجال مفتوحاً أمام المشاورات التسوويّة لكسب المزيد من النقاط، التي تزيد من إطمئنانه الى عدم المس بالمحرمات المقدّسة بالنسبة الى قضاياه الاستراتيجية التي يحيطها بجدار منيع من الخطوط الحمر…

وبعيداً عن عملية إحتساب توزيع الأصوات وتحليل أرقامها، خلال الجلسة سواء التي حصل عليها المرشحون، أو التي أسقطت في صندوق الاقتراع من دون إسم، فإنّه يمكن للمتابعين المحايدين الاستنتاج بأنّ الجلسة انتهت إلى محصلتين حتميتين، لا يمكن تجاوزهما أو التغاضي عنهما، عندما يقرّر الرئيس بري دعوة المجلس كهيئة ناخبة مجدداً.

وهاتان المحصلتان، يمكن تحديدهما بالآتي:

– عجز أيّ فريق عن تأمين الأكثرية لانتخاب الرئيس الجديد، بحيث أنّ التحالفات القائمة لا تمتلك القدرة منفردة على أن تفرض رئيساً جديداً للجمهوريّة، بمعزل عن تفاهمات توافقية مع بقية المكونات السياسية.

– عدم إمكان أيّ فريق تبنّي مرشّحٍ رئاسي ما لم يكن اسمه يحظى بثقة عواصم القرار ذات التأثير الكبير وموافقتها على مجريات التطورات السياسية على الساحة اللبنانية، مما يستوجب نوعاً من الملاءمة في ما بينها على إسم محدد.

في أعقاب الجلسة، يمكن القول بلغة حسابات الربح والخسارة السياسية، إن ثمة خاسرين، مقابل رابح واحد.

الخاسران هما تحالف “قوى السلطة”، وتحالف القوى “السيادية والتغييرية” (غير المتماسك) اللذان أثبتا عجزهما عن فرض مرشح لهما، وتأمين الأكثرية لانتخاب رئيس يدور في فلك أحدهما.

أما الرابح الوحيد سياسياً فهو الرئيس بري، الذي تمكّن بدهائه السياسي من أن يرفع عن نفسه المسؤولية الدستورية بدعوته المجلس النيابي الى الإنعقاد، ويرمي مسؤولية الإخفاق في إنتخاب الرئيس على القوى السياسية والمراجع الدينية، فضلاً عن الدول المعنيّة، التي تتعاطى ببرودة مع الإستحقاق.

وهذه الربحية للرئيس بري عزّزت من موقفه على عدم قدرة أيّ من الفرقاء على تأمين الأكثرية، من دون حصول توافق بين القوى السياسية الرئيسة على شخص الرئيس، وهذا ما أكّده بصورة واضحة وصريحة في خطابه في ذكرى تغييب الامام موسى الصدر ورفيقيه في 31 آب الماضي، عندما دعا إلى التوافق بين القوى السياسية على الرئيس الجديد.

عدم التوافق هذا دفع الرئيس بري الى القول في ختام الجلسة: “إن لم يحصل أيّ توافق لا يمكننا أن ننتخب لا رئيس ولا مجلس نيابي ولا لبنان، وفي المرة المقبلة حين أشعر أنّه يمكن أن يحصل توافق، سأدعو فوراً الى جلسة ثانية”.

بناءً عليه، فإنّ لا جلسة ثانية لمجلس النواب ما لم تتهيأ ظروف انعقادها بمعايير رئيس المجلس.

هنا السؤال الذي يفرض نفسه: هل كان هدف الرئيس من الدعوة (على الرغم من معرفته المسبقة بنتائجها) تحفيز القوى المحلية والخارجية لكي تبادر إلى تزخيم إتصالاتها لحسم موقفها عبر تأمين التوافق على رئيس “تسوية” يحظى بإجماع مريح، يمكنه من تحمّل مسؤولياته الوطنية والدستورية؟ أم أنه أراد إيصال رسالة إلى الداخل والخارج بإستحالة انتخاب رئيس خلال المهلة القانونية، مما يتطلّب منعاً للوقوع في محظور الفراغ، تعبيد الطريق أمام الرئيس المكلف تشكيل حكومته قبيل إنتهاء ولاية الرئيس عون؟

بغض النظر عن أيّ من الهدفين اللذين دفعا الرئيس بري الى إخراج “أرنب” الدعوة الى الجلسة الأولى، فإنّ المؤكّد بعد الجلسة أمران اثنان:

– لا جلسة نيابية ثانية في المدى المنظور.

– لا رئيس جمهورية جديداً للبنان، من دون توافق داخلي وخارجي.

فهل يدخل لبنان فراغ التعطيل التام لعمل السلطات والادارات، ويمضي بوتيرة أسرع نحو الإنهيار الشامل؟ أم ستنشأ دينامية سياسية جديدة تسفر توافقاً على رئيس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟.

شارك المقال