دور استعراضي لعون في الترسيم… ولا عزاء لشعراء البلاط

محمد شمس الدين

أزمة كبيرة يعيشها شعراء البلاط في لبنان، فمصداقيتهم أصبحت في الحضيض حتى أمام الجمهور الموالي، ولكل فريق سياسي في لبنان شعراؤه، حتى أن بعض أهم المناصب في لبنان يمتلك شعراء، هم خبراء في شتى المجالات، في الاقتصاد والنفط والسيادة والدستور والعسكر والزراعة والاستراتيجيا…إلخ، خبراء في كل شيء، هدفهم تسويق الأجندة السياسية للفريق السياسي الذي يدفع لهم معاشاتهم آخر الشهر، وقد لا يكون الدفع عبارة عن أموال، بل يمكن أن تكون بمثابة صفقات وتسهيلات تعود عليهم بربح مادي كبير، أو قد يحظون بوعد بنيابة أو وزارة ما، أو حتى بلقب مستشار، لاسيما أن لا أحد يستطيع معرفة كم يقبض جيش المستشارين في الدولة من أموال.

السلطة السياسية في لبنان لا تزال تعيش في عصر انطوى عليه الزمن، فلا يمكن اليوم استغباء الشعب بالطريقة القديمة نفسها، ولم يعد الناس يحصلون على معلوماتهم من التلفاز أو الاذاعة، فهو عصر المعلوماتية والسرعة، وانفتاح العالم كله على بعضه البعض، ويمكن لأي صاحب حساب على مواقع التواصل سؤال خبراء عالميين عدة مباشرة، ليتأكد من صحة ما يحاول شاعر البلاط تسويقه، وأكبر دليل على ذلك عندما سألت ناشطة على موقع “تويتر”، رئيس مجلس إدارة شركة “سيمنز” الألمانية عن عرض الشركة لتزويد لبنان بالطاقة، فأجابها إجابة صريحة وواضحة، بأن الشركة حاولت أن تعرض، الأمر الذي نسف رواية “التيار الوطني الحر” وشعرائه أنه ليس هناك عرض.

اليوم، يحاول شعراء عهد رئيس الجمهورية ميشال عون التسويق لانتصار عظيم حققه في ملف ترسيم الحدود، وأنه الوحيد الذي استطاع تحصيل حقوق لبنان النفطية، وإن كانت هذه البروباغندا قد تمر على مناصري عون والتيار، إلا أن سهولة الحصول على المعلومات، وأرشفة وسائل الاعلام أخبارها على مواقعها الالكترونية، لا يدع هذا الأمر يمر على بقية اللبنانيين، فببحث بسيط على الشبكة العنكبوتية، يمكن لأي مواطن الإطلاع على المسار الطويل لملف الحدود البحرية المتنازع عليها، وكيف أن عون وصهره جبران باسيل لم يفاوضا حتى، بل أن كل ما يذكره الأرشيف عن أي كلام من “بي العهد” وولي عهده، هو عندما كان يأتي وسيط إلى لبنان، فيحاولان رفع العقوبات المفروضة على باسيل من ضمن اتفاقية الترسيم. أما العمل الحقيقي للترسيم فكان مساراً شاقاً وطويلاً، بدأ في العام 2002 عندما كلفت الحكومة اللبنانية مركز “ساوثمسون” لعلوم المحيطات بالتعاون مع المكتب الهيدروغرافي البريطاني، إعداد دراسة لترسيم حدود مياه لبنان الاقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، بهدف إجراء عملية مسح جيولوجي للتنقيب عن النفط والغاز في هذه المنطقة، ولكن هذه العملية واجهت صعوبات كثيرة حينها، بسبب عدم توافر خرائط بحرية دقيقة وواضحة، مما أنتج ترسيماً غير دقيق. لتعود الدولة اللبنانية في العام 2006، الى تكليف المكتب الهيدروغرافي البريطاني بإجراء دراسة جديدة، لتكون نسخة محدثة عن الدراسة التي سبقتها. ثم في العام 2007 وقع لبنان مع قبرص اتفاقية حول تعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، للتعاون في ما بينهما لاستثمار الثروات النفطية. وبعد توقيع قبرص اتفاقية مع اسرائيل، اتهم لبنان في العام 2011 قبرص بتجاهل ما تم الاتفاق عليه سابقاً، بعد أن تسببت اتفاقيتها مع اسرائيل بخسارته ما يزيد عن 860 كلم2 مساحة مائية، من منطقته الاقتصادية الخالصة.

عام 2012، دخلت الولايات المتحدة على خط النزاع البحري بين لبنان واسرائيل، وأرسلت موفدها فريدريك هوف، الذي قدم عرضاً للبنان، يحصل بموجبه على مساحة 500 كلم2 من مساحة 860 كلم2 المتنازع عليها، وتحصل اسرائيل على 360 كلم2 الباقية، ولكن لبنان رفض هذا العرض الذي أًصبح يعرف بـ “خط هوف”. بل حتى رفض عرضاً باعتبار خط هوف مؤقتاً، خوفاً من أن يصبح المؤقت دائماً عند اسرائيل.

بقيت الأمور كما هي حتى العام 2018، عندما قام لبنان بتوقيع عقد مع ائتلاف شركات دولية هي “توتال” الفرنسية و”إيني” الايطالية و”نوفاتيك” الروسية، للتنقيب عن النفط والغاز في البلوك 4 و9 في مياهه الاقليمية، الأمر الذي اعتبرته اسرائيل خطوة استفزازية كون البلوك رقم 9 من المفترض أنه متنازع عليه، لتدخل أميركا على الخط مجدداً وترسل وسيطها، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد، بعد أسبوع من توقيع لبنان العقد مع ائتلاف الشركات، الذي حاول مجدداً إعادة خط هوف إلى الطاولة الأمر الذي رفضه لبنان، وصدر بيان حينها عن رئيس مجلس النواب نبيه بري، شدد فيه على إصراره على موقفه لجهة ترسيم الحدود البحرية عبر اللجنة الثلاثية المنبثقة عن تفاهم أبريل/نيسان 1996 التي تضمّ لبنان وإسرائيل والأمم المتحدة.

بعد ذلك، زار وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لبنان في العام 2019، وأجرى محادثات مع الرؤساء الثلاثة وقتها، ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري، تناولت مواضيع عدة منها ترسيم خط الحدود البحري بين لبنان وإسرائيل. ليعود ساترفيلد بعده بأشهر، ويجري محادثات مع الأطراف اللبنانية، أبلغها فيها إمكان إجراء مفاوضات غير مباشرة، تشمل الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل. واستمر ساترفيلد في مفاوضاته إلى أن خلفه دايفيد شينكر في خريف العام نفسه. وأعلنت وزارة الخزانة الأميركية في 8 أيلول 2020 فرض عقوبات على وزيرين في الحكومة وزير الأشغال يوسف فنيانوس والمال علي حسن خليل، وهو المعاون السياسي للرئيس بري، بعد زيارة شينكر بـ 5 أيام إلى لبنان، على خلفية انفجار المرفأ، الأمر الذي اعتبره بري وقتها رسالة مباشرة إليه، بسبب مواقفه المتصلبة في مفاوضات ترسيم الحدود، إلى أن أعلن أخيراً في تشرين الأول 2020، عن اتفاق الاطار لاطلاق المفاوضات بين لبنان واسرائيل، الذي حقق فيه بري ما أراده أي التفاوض وفق تفاهم نيسان 1994، وأعلن أن دوره انتهى بهذا الملف. ولكن بري لم يعرف أن الملف الذي عمل عليه لسنين طويلة، بأسلوب محترف يحظى بالسرية، عندما سينتقل إلى الرئيس عون سيكون مادة سياسية إعلامية يدخل فيها أي كان، وهذا ما حصل فعلاً، فالاتفاق قضى بأن يختصر تمثيل البلدين على التقنيين العسكريين فقط، للتشديد على العداء اللبناني تجاه اسرائيل، إلا أن فريق العهد أصر على ممثل مدني تابع له مع المفاوضين، ثم بدأ يستغل الملف سياسياً، على وقع أغاني حملة “وقع يا نجار” في محاولة للنيل من رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، قبل أن يرتد عليه هذا الأمر بعد أن وقع وزير “المردة” في حينه، بينما امتنع عون عن التوقيع، لتدخل المفاوضات مرحلة أخد ورد، قبل أن يدخل الوسيط الأميركي الجديد أموس هوكشتاين على الخط، وقد حاول المماطلة أيضاً إلا أن حرب روسيا على أوكرانيا وأزمة الطاقة العالمية دفعته إلى تشغيل عجلاته للوصول إلى اتفاق بسرعة.

وبعيداً عما إذا كان لبنان تخلى عن حقوق له أم لا، فكل ما قام به الرئيس عون في هذا الملف هو المزايدة الشعبوية، والمطالبة برفع العقوبات عن ولي عهده وصهره باسيل، ولم يكن له أي دور أساسي فيه، فالمسؤولون الأميركيون، كانوا يزورون عون بروتوكولياً، وبعده يزورون بري لأخذ الزبدة، ولكن يمكن فهم جوقة المطبلين اليوم، فعهد الدمار يحتاج الى أن يقول انه أنجز ولو أمراً واحداً فقط، قبل نهاية العهد في أخر هذا الشهر، إلا أن الاحتفالات قد تتحول إلى نكسة كبيرة، وتحديداً إذا حصل أمر من اثنين، أن تتلكأ “توتال” في تنفيذ الاتفاق، أو أن تصح بعض المعلومات بأن الثروة من حقل قانا قد “شفطت”، لذلك لا تجد الثنائي الشيعي يسوق لانتصار كبير، بل يترقب وينتظر، وعندها لكل حادث حديث.

شارك المقال