حرب الـ 11 يوماً وانحطاط المجتمع الإسرائيلي

محمد علي فرحات

حديث وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن حول الشعب الفلسطيني بدا مثل كلام صديق على صديقه وعلى حقّه في الحريّة والاكتفاء، على رغم موقف واشنطن التقليدي من حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. ها هو الحزب الديموقراطي الأميركي يعيد الأمور إلى نصابها في حروب صغيرة لا ترقى إلى الخطورة. والحال أن حرب الـ 11 يوماً تجاوزت سببها الأصلي وهو الاعتداء على حي الشيخ جراح المقدسي ومحاولات المستوطنين احتلال المسجد الأقصى، لتنحصر في حرب غزّة – إسرائيل، من دون أن نغفل دخول عامل جديد هو فلسطينيو 1948 إلى الصراع للمرة الأولى بعدما كانوا يكتفون باحتفالات يوم الأرض السنوية. ولا نغفل أيضاً جديد حرب الصواريخ التي طاولت معظم مدن وبلدات الكيان الإسرائيلي، ربما للمرة الأولى، كما أنذرت بأشكال جديدة من الحرب لم يعهدها الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من قبل. وقد شهد العالم فلسطين التاريخية تنهض كلها للدفاع عن مصيرها الوطني.

حاولت “حماس” الإشارة إلى مشكلتي الشيخ جراح والأقصى، لكنّ الأمر بقي في حدود الكلام لا الفعل لأن تأثير التنظيم الفلسطيني الإخواني بقي في غزّة وحدها حيث يسيطر ويتحكّم، لكنّ خصوم “حماس” الفلسطينيين لم يتوجّهوا إليها بالسوء لأن الحرب تحدث ضد عدوّ مشترك هو السلطة الإسرائيلية المتمرّدة على معاهدات السلام والمنصرفة إلى مزيد من الاستيطان وإهمال حقوق الفلسطينيين، بل حتى وجودهم الذي جرى تهميشه في خطط السلام الأميركية للمنطقة. وقد بقيت واشنطن حتى حرب الـ 11 يوماً أسيرة منطق دونالد ترامب البعيد عن مسؤوليات دولة كبرى في السلام، خصوصاً في الشرق الأوسط.

القيادة الفلسطينية في رام الله المعترف بها دوليّاً لا تزال قليلة الكلام، على رغم أن المواقف الأوروبية والأميركية، على الأقل، تتوجّه إليها، لأن “حماس” المعنيّة الأساسية في حرب الـ 11 يوماً مصنّفة تنظيماً إرهابياً، وبدورها لم تفوّض “حماس” السلطة الفلسطينية الحوار مع أميركا والمجتمع الدولي ولم تستبعدها في الوقت نفسه. الصوت الفلسطيني الجامع لا يزال معلّقاً، وثمّة جهات صديقة لـ”حماس” تحاول الوصول إلى هذا الصوت لأن “حماس” وحدها لا تمثّل الفلسطينيين، كما أنّ صورتها الإيديولوجية تتعارض مع أي استقرار أو استجابة إلى حل ما للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ويُلاحظ أن أصواتا صديقة أخرى لـ”حماس” تؤكد انضمام التنظيم الفلسطيني الأخواني إلى محور المقاومة والممانعة الذي تقوده طهران. ويُغفل هذا المحور أن “حماس” أكثر قرباً إلى الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان المهيمن على التنظيم العالمي للإخوان المسلمين.

وستكون واشنطن في مقدّم المساهمين في إعمار غزّة، على رغم أن وزير خارجيتها لم يقابل أيّا من زعماء “حماس”، والاتصالات الدوليّة أثناء حرب الـ 11 يوماً وبعدها اقتصر معظمها على السلطة الفلسطينيّة وعلى شخصيات اعتادت الحوار مع عواصم العالم، بحيث أصبح هؤلاء أشبه بوسطاء بين “حماس” والمجتمع الدولي، وهي حال غير قابلة للاستمرار تنتظر توصّل الفلسطينيين إلى وضع يسمح بمشاركة “حماس” في السلطة ويدفعها للتخلّي إلى حد مقبول عن إخوانيتها لمصلحة فلسطينيتها، تساعدها على ذلك المعارك الناجحة التي خاضتها وامتناعها خلال الحرب عن إطلاق شعارات إخوانية لمصلحة الشعار الفلسطيني الجامع . ولكن، هل تستطيع “حماس” الإستمرار في هذا الخيار الوطني؟ ثمّة كثيرون يشكّكون في قدرتها على ذلك.

وما يحدث إلى الآن، وعلى رغم وقف النار، هو معاودة دخول المستوطنين المسجد الأقصى والإصرار على محاصرة حي الشيخ جراح المقدسي بهدف طرد سكانه. أما فلسطينيو 1948 فهم موضع قلق إسرائيلي مستجد، ويبدو أن اليمين المتطرّف الحاكم يدرس هذه القضية باهتمام وقد يفاجئ العالم بإجراءات غير متوقّعة. إن انضمام فلسطينيي إسرائيل إلى الحرب يُدخل عاملاً غير واضح إلى خريطة الصراع ويفتح على دوافع أدّت إلى مشاركتهم، في مقدّمها تغيّر أحوال السياسة في إسرائيل بعد التأكيد على يهودية الدولة وصعود المتطرفين إلى الواجهة. وبدل أن يٌقدّم المجتمع الإسرائيلي صورة متنوّعة يحتل العلمانيون الديمقراطيون واجهتها، ها هي صورته الجديدة يتقدّم فيها بنيامين نتنياهو وإلى جانبه من سيرثونه بعد وقت قريب. إنهم أولئك المتديّنون المتطرّفون الممتنعون عن العمل ودفع الضرائب والمنكفئون عن حركة المجتمع إلى انعزال وعدوانيّة. هؤلاء المتطرّفون يستدعون أشباههم في المجتمع الفلسطيني، من باب أنه لا يفلّ الحديد إلا الحديد، وإن المتطرّف اليهودي يتطلّب وجود متطرّف إسلامي بحيث تدخل المنطقة حرب أديان واضحة بعدما كانت مقنّعة.

الشعب الفلسطيني يشبه نفسه ولا يشبه المتطرّفين الإسرائيليين، وهو من أكثر شعوب المنطقة انفتاحاً على رغم مأساته المديدة. ولن تستطيع “حماس” بفكرها المعهود أن تكون الممثّل الشرعي لهذا الشعب الذي يقدّم نضاله الوطني سبيلاً وحيداً إلى فلسطين أكثر إنسانية واعترافاً بالآخر. ويبدو أن مشاكل المنطقة تنتظر حلّها من البوابة الفلسطينية، خصوصاً إذا نظرنا إلى الخراب المحيط بفلسطين حيث لبنان يعاني الفقر والتشرذم وسورية أمام مصير معلّق والعراق غارق في بحر الفساد والطائفية فضلاً عن امتداد الأيدي الإيرانية والتركية إلى ثرواته.

حرب الـ 11 يوماً مرحلة في مسار فلسطيني طويل، إذ تبرز “حماس” الإخوانيّة بطلة وحيدة للمرحلة، كما كان “حزب الله” اللبناني بطلاً وحيداً في تسعينيات القرن الماضي حين اعتبره معظم اللبنانيين حلّا لمشكلة الاحتلال الإسرائيلي وما لبث أن تحوّل في نظرهم هو نفسه إلى مشكلة. وفي حين أن لبنان ينتظر وريثاً مقبولاً لـ “حزب الله” فإن غزّة على الأقل ستنتظر وريثاً لـ”حماس”. أما إسرائيل كمجتمع فتذهب بعيداً عن الحضارة الغربيّة التي ساهم متنوّرو اليهود في تأسيسها، لتصبح متحفاً للتخلّف يجذب السيّاح الفضوليين.

 

كلمات البحث
شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً