إذا لم تستحِ… فاصنع ما شئت

صلاح تقي الدين

قليلون هم الذين تفاجأوا بكلمة رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل التي ألقاها “احتفالاً” بذكرى 13 تشرين الأول 1990 والتي أثبتت مرة أخرى أنه يعيش في عالم منفصل عن الواقع كلياً ويستمر في خوض معارك وهمية “دونكيشوتية” في وجه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عازياً إلى نفسه في “نرسيسية” مطلقة النجاح في ملف الحدود البحرية واحتمال البدء باستخراج ما تكتنزه المياه الاقتصادية اللبنانية من نفط وغاز.

في المبدأ، اعترف باسيل بأن هذه الذكرى أليمة ووجه التحية الى “الشهداء” الذين ما كانوا ليسقطوا لو لم يكن العناد الذي تميّز به آنذاك العماد ميشال عون – ولا يزال على عناده لغاية اليوم وقد أصبح رئيساً على بعد أيام قليلة من أن يتحول إلى سابق – السبب الوحيد الذي دفع المجتمع الدولي إلى اتخاذ قرار بإنهاء تمرده بالقوة العسكرية!.

غير أن باسيل لم يكتف بهذا الاعتراف، بل صوّر ذلك اليوم المشؤوم على أنه “هزيمة عسكرية من دون أخذ توقيع، وانطلاق المقاومة السياسية لاسترجاع الحرية والسيادة والاستقلال”. مجنون يحكي وعاقل يسمع. كيف أن هروب رئيس الحكومة الانتقالية من مقر قيادته وكان قائداً للجيش اللبناني في الوقت نفسه، وترك عائلته الصغيرة – زوجته وبناته – وعائلته الأكبر المكونة من عناصر الجيش اللبناني من ضباط، رتباء وأفراد ليواجهوا المصير المحتوم بالانكسار المذل، واستشهاد من استشهدوا وفقدان الذين لا يعرف لغاية اليوم لهم أثر في سوريا، كيف يمكن اعتبار ذلك اليوم انطلاقاً لمقاومة سياسية خاصة بعد أن تراجع صاحب نداء “يا شعب لبنان العظيم” عن كل ما وعد به من أجل الوصول إلى الكرسي الرئاسي؟

لم يتعلّم باسيل أن استعادة التاريخ، لا تجلب له سوى العار، واقترافاته في هذا المجال كثيرة، فهو اعتبر “القوات اللبنانية” وقائدها سمير جعجع من الخونة ويعيّرهم في كل مناسبة وحين بالدم الذي يلطخ أيديهم، ثم يقبل عليهم بحجة “أوعا خيّك” ليؤمن اتفاقاً معهم يكون “جسراً” يعبر عليه وتياره ورئيسه إلى قصر الرئاسة في بعبدا، ثم لا يلبث أن “يلحس” إمضاءه ويلغي الاتفاق ليعود إلى النغمة السابقة إياها من التخوين والاتهام.

غريب أمر هذا الرجل في معركته “الدونكيشوتية” في وجه حاكم مصرف لبنان. فيوم كان الحاكم، مجبراً لا بطل على إجراء هندسة مالية لصالح مصرف “سيدروس” الذي لا يخفى على أحد حقيقة ملكية أسهمه، كان رياض سلامة بطلاً كوفئ في اليوم التالي على هذه الهندسة بتمرير مرسوم تجديد ولايته في حاكمية المصرف، ثم أصبح بعدها العدو الأوحد لباسيل، الذي استخدم كل الوسائل المتاحة له ولعمه، في استهداف سلامة وتركيب الملفات بحقه في الداخل والخارج، واتهامه بأنه “لص” سارق لأموال الناس. هل تشمل سرقات سلامة الأموال التي جناها باسيل وزوجته وأزلامه في صفقة “سيدروس”؟

ومن الاتهامات التي يسوقها جبران ضد رياض سلامة أنه حوّل أموالاً لسياسيين إلى خارج لبنان بعد اندلاع “انتفاضة” 17 تشرين الأول 2019 تبلغ حوالي 10 مليارات دولار، وكرّر هذا الاتهام في خطابه في الذكرى، لكن هل لنا أن نسأله عمن “سرق” ديون لبنان البالغة قيمتها أكثر من 100 مليار دولار؟ فإذا كانت المنظومة منذ العام 1990 حتى العام 2005 هي المسؤولة، فكم هي نسبتها وكم هي النسبة التي “سرقت” وجنابه في السلطة منذ العام 2005 لغاية اليوم؟

ألا يعترف الجميع في الداخل والخارج بأن نسبة مديونية لبنان هي في قطاع الكهرباء تحديداً والذي تسلّمه شخصياً ثم أوكله إلى مستشاريه وأزلامه من بعده منذ أكثر من 10 سنوات، وتبلغ أكثر من 40% من مجمل ديون لبنان؟ هل هذا ما يسمّى في العلوم النفسية “حالة إنكار” وهو ما يعيشه جبران؟

لقد نسب باسيل الى نفسه “إنجاز” معادلة “لا غاز من كاريش بدون غاز من قانا” ثم تكرّم على الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله بمنحه “شرف” استخدام هذه المعادلة وتكريسها وأنها كانت السبب في “إخضاع” العدو الصهيوني و”سوقه مكبلاً” إلى توقيع اتفاق الترسيم. ليس غريباً عليه هذا الادعاء وغيره من الادعاءات الأخرى، لكن جبران يدرك تحديداً أنه لولا “زنود” الحزب لما كان باستطاعته أن يضحك على ناسه أولاً وعلى باقي اللبنانيين ثانياً، إن من حيث زعمه بامتلاك أكبر كتلة نيابية مسيحية، وهذا غير صحيح، أو من حيث نجاحه في انجاز اتفاق الترسيم، فمنذ العام 2006، وباسيل وعمّه “يخانقان” الجميع بـ “زنود” الحزب.

“ما خلوّنا”، هذه اللازمة التي تشكّل محوراً أساسياً في كل مواقف باسيل، لا تزال ترافقه في معرض تبرير فشله سواء في قطاع الكهرباء أو السدود أو القضاء. لكنه ينسى أو يتناسى أنه “ما خلّى غيره” أيضاً العبور إلى مرحلة استقرار سياسي طيلة السنوات الماضية، إذ أنه كان دائماً صاحب خطط “العرقلة” التي يتفنن بها، فكان لا يسمح بتشكيل الحكومات إلا بعد أن ينال منها حصته الوازنة وتحكّمه بقراراتها، وهو لا يزال “لا يخلّي” الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل حكومة آخر العهد لكي لا نقع في “فوضى” دستورية هو نفسه من بشّر اللبنانيين بوقوعها إن انقضت المهلة الدستورية ولم يصر إلى انتخاب رئيس للجمهورية.

يحار المرء في وصف هذا النوع من السياسيين، والذي في الغالب ليس له مثيل، فالتعطيل هو سمته الغالبة، ومصالحه الشخصية تتفوق على مصالح كل اللبنانيين، وإن لم تكن الأمور لتسير على هواه، “فستين عمرها ما تكون”. حقاً إنها “هزلت” وإذا لم تستح فاصنع ما شئت.

شارك المقال