أي طريق نفطي سيسلك لبنان: النروج أو فنزويلا ونيجيريا؟

جورج حايك
جورج حايك

بعد “سكرة” الإنجازات التي يعيشها المسؤولون اللبنانيون على خلفية ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، والتنافس على “أبوة” هذا الإنجاز، يجب أن يبدأ التفكير أولاً في ما يختزنه حقل قانا من غاز، وإلا تكون النتيجة مخيّبة للآمال، إذ يكون لبنان الرسمي تنازل عن حقل “كاريش” المضمون بتوافر الغاز فيه، مقابل حقل “قانا” الذي تُطرح حوله علامات استفهام عدة!.

لكن لن نبدأ بجلد أنفسنا منذ اليوم وقبل بدء التنقيب، بل سنفترض أن الحقل مليء بالغاز وبنوعية تجارية جيدة، فكيف ستدير السلطة اللبنانية هذه الثروة؟

لا شك في أن دولاً عريقة سبقتنا في هذا المجال وحققت حوكمة ذكية لإدارة قطاع النفط والغاز وأنشأت صندوقاً سيادياً جعلها من الدول الغنية، تستثمره لخير شعوبها وفي مقدمها دولة النروج. وفي المقابل هناك دول تُعتبر منتجة للنفط وبكميات وافرة لا تزال فقيرة ومنكوبة، ولعل أبرزها فنزويلا ونيجيريا.

لا يمكن الاطمئنان الى المنظومة الحاكمة في لبنان ولا يجوز ائتمانها على الثروة النفطية، فهي سبّبت انهيار الاقتصاد اللبناني وخصوصاُ في ظل تناحرها السياسي الطائفي وغرقها في الفساد حتى الأذنين.

نبدأ بالوضعية الفنزويلية التي تشبه لبنان، فهي تخضع لنظام اشتراكي يساري مناهض للولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي، وتعيش حالة عزلة نسبية، واعتمدت في اقتصادها على تصدير النفط بالدرجة الأولى من دون تنويع الاقتصاد وتشجيع المبادرات الانتاجية الفردية. ووقع حكامها في تجربة الأداء الفاسد وجمع الثروات لأركان النظام ومعاونيه فيما أكثرية الشعب تتخبط بالفقر والعوز، وتمارس عليها الديكتاتورية التي لا تحترم حقوق الإنسان.

ولأن فنزويلا اعتمدت على النفط فحسب، وربطت اقتصادها به، باتت تتأثر بأول خضة تصيب هذا القطاع، وهذا ما حصل عندما تهاوت أسعار النفط، مما دفع الحكومةَ الفنزويليّة إلى تغطية وارداتها عبر الاقتراض. أكبر دائني فنزويلا اليوم هو الصين، التي يقدَّر بأنّها أقرضت فنزويلا أكثرَ من 60 مليار دولار. والصين، بغضّ النظر عن استبشار بعض “الممانعين” بها لكونها “تتحدّى الغرب”، هي في نهاية المطاف دولة ذات مصالح، وليست جمعيّة خيريّة. فترة السماح الخاصّة بالقروض الصينيّة انتهت، مما فرض المزيد من الأعباء على كاراكاس التي خصّصتْ ثلثيْ صادراتها من النفط لسداد فوائد القروض الصينيّة. وقد رأينا ما حصل للدول التي لم تستطع سداد القروض الصينيّة، كما حصل مع سريلانكا وغيرها.

لا يمكن وصف ما حصل في فنزويلا سوى بـ”سوء الادارة” وقِصر النظر وخسارة فرص التنمية نتيجة للتركيز على المشاريع التي تحقّق شعبيّة عالية مع الاستمرار في ممارسة الخطاب الشعبويّ.

وليس بعيداً من فنزويلا، تطل علينا نيجيريا بوضعية مخيبة للآمال كثيراً، إذ تعتبر بلداً نفطياً بإمتياز، إلا أنها تمثل أسوأ بؤرة فساد بحيث تتمكن العصابات من سرقة نحو مئة ألف برميل من أصل الانتاج البالغ مليوني برميل يومياً، أي أن خمسة في المئة من الانتاج تُسرق وتُباع في السوق السوداء. لكن وزارة المال النيجيرية تشير إلى أن 400 ألف برميل يطالها الهدر يومياً. ويؤكد تقرير صادر عن معهد “تشاتهام هاوس” أن عمليات نهب النفط النيجيري، خفضت عائدات القطاع بنسبة 80 في المئة أي ما يتراوح بين ثلاثة مليارات وثمانية مليارات دولار سنوياً.

مع ارتفاع أسعار النفط امتلأت خزائن الحكومة النيجيرية الى مستويات غير مسبوقة بفضل ايرادات النفط. ومع ذلك فإن الغالبية العظمى من سكان نيجيريا البالغ عددهم 140 مليون نسمة لا تعيش في ظروف أفضل مما يعيش جيرانها في غرب أفريقيا أقل المناطق تنمية في أفقر قارات العالم.

وينطبق الأمر نفسه على العديد من الدول الرئيسة المنتجة للنفط في أفريقيا ومنها أنغولا والسودان وغينيا الاستوائية وتشاد. الا أن ضخامة حجم نيجيريا وانتاجها البالغ مليوني برميل يوميا يبرزان التناقضات بين الفقر والثروة.

فقد بلغت قيمة ما حصلت عليه نيجيريا من صادرات النفط بأسعار اليوم ما يقرب من1.2 تريليون دولار خلال العقود الأربعة الأخيرة. ومثل هذا الدخل هو الذي مكّن دولاً خليجية مثل قطر من تطوير اقتصاد قوي على مستوى العالم العربي.

واللافت أن مصافي التكرير الأربع المملوكة للدولة النيجيرية لا تعمل بكامل طاقتها لأسباب منها سوء الادارة والتخريب، كما أن شبكة التوزيع تشوبها الفوضى وتعتمد اعتماداً كبيراً على واردات الوقود التي تكلف البلاد نحو أربعة مليارات دولار سنوياً. ويبرز التناقض الاجتماعي الطبقي في العاصمة لاغوس حيث يحتسي بعض رجال الأعمال المقربين من السلطة الشمبانيا في جزر خاصة وان كانت لا تخلو من أزيز مولدات الديزل التي لا تتوقف بينما تعيش غالبية الناس في أحياء فقيرة ليست فيها مياه أو كهرباء!.

وتكاد الرعاية الصحية تنعدم في البلاد كما أن الطرق مليئة بالحفر والبطالة والجريمة في ازدياد. والى جانب كل ذلك تعاني نيجيريا من ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية. ويعيش تسعة أعشار النيجيريين على أقل من دولارين في اليوم وتفاقم مشكلاتهم البنية الأساسية المهترئة ونقص الخدمات العامة بسبب الفساد المستشري على مدى عشرات السنين!.

هذه الحقائق تقابلها تجربة مناقضة تماماً تحولت مقياساً للنجاح في استثمار الثروة النفطية. فالنروج باتت تمتلك أكبر صندوق للثورة السيادية في العالم تبلغ موجوداته 818 مليار دولار ويحقق نمواً بنحو ثلاثة في المئة سنوياً. والتجربة النروجية تعطي لكل مواطن حصة تبلغ 165 ألف دولار من هذه الثروة، كما تستثمر أوسلو أربعة في المئة من هذه الأصول سنوياً في مشاريع تنموية داخلية. وتحتل النروج المرتبة الأولى على مؤشرات التنمية البشرية في نسبة النمو الاقتصادي الحقيقي، ومتوسط دخل الفرد، ومستوى التعليم والخدمة الصحية.

والجدير بالذكر أن النروج كانت دولة فقيرة، تعتمد مصادر دخلها على صيد الأسماك والفلاحة حتى منتصف القرن الماضي. إلا أن ادارتها الحكيمة والعادلة للصندوق السيادي للأرباح النفطية سمح لها ببناء منظومة اجتماعية أساسها العدل والمساواة وركائزها التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، مع منح أهمية استثنائية للأسرة وللطفل باعتباره عماد مستقبل الأوطان.

وعلى الرغم من توافر صندوق سيادي يعد الأكبر عالمياً، فإن موارده مصونة من الاستنزاف ولا تُستخدم إلا بنسب محدودة، بحيث تعتمد الحكومة في مداخيلها على الضرائب إلى جانب قطاع الغابات والسياحة والتكنولوجيا، ومجالات أخرى تعزز الدخل الوطني وتُسهم في الاقتصاد النروجي، تستند الى ستة عوامل هي: نصيب الفرد في الناتج المحلي الاجمالي، متوسط العمر، الحرية، سخاء الدولة مع مواطنيها، الدعم الاجتماعي وغياب الفساد في الحكومات أو الأعمال أو الشركات.

وتعود نشأة الصندوق النروجي إلى ستينيات القرن الماضي، عندما رأت الحكومة ضرورة إدارة العائدات النفطية بكفاءة وحكمة. وكانت قد أعلنت سيادتها على الجرف القاري حول بحر الشمال، ومنحت التراخيص لشركات عالمية لبدء الحفر بحثاً عن النفط في العام 1966، تحت سيطرتها وإشرافها. واستمر الحفر لمدّة أربع سنوات، لكن جميع المحاولات باءت بالفشل، وبدأت الشركات بالانسحاب وشحن حفاراتها، عدا شركة Philips petroleum التي بقي لديها بئر واحد ينتظر الحفر.

وبعد أربع سنوات من المحاولات، اكتشف النفط أخيراً في أواخر كانون الأول عام 1969، وبدأ التحوّل الاقتصادي في النروج، من دولة تعتمد على الزراعة وصيد الأسماك، لتصبح الدولة الرائدة عالمياً في مجال التنقيب عن النفط والغاز.

وبعد الطفرة التي عاشتها البلاد، بات الهدف هو المحافظة على مستويات النمو وتحصين الاقتصاد في المستقبل، فكان تأسيس صندوق النفط عام 1990 لدعم الاقتصاد على المدى الطويل، عندما تشح الإيرادات النفطية. وفي العام 1996، جرى أوّل تحويل مالي إلى الصندوق، ثمّ في العام 2006 تغير إسمه ليصبح الصندوق التقاعدي الحكومي النروجي. وتقوم وحدة الاستثمار في المركزي النروجي NORGES BANK، بإدارة الصندوق نيابة عن وزارة المالية، التي تمتلكه باسم الشعب.

فعلياً، لا شيء يبشّر بالخير في لبنان على هذا الصعيد، لأن لا أحد يفكّر في الدور التنموي للنفط الذي يسبق أهمية استخراجه وبيعه واللبنانيون لم يسمعوا كلمة في هذا المجال، ولم يقدّم المسؤولون أي تصور تنفيذي لمرحلة ما بعد النفط سوى عناوين عريضة تتعلق بإطفاء الدين العام وتأسيس صندوق سيادي مُتنازع على حق رئاسته!. وإذا كان الخلاف محتدماً حول من حقق انجاز مفاوضات الترسيم والكثير من المزايدات، فإن الأمر لا يُنبئ بأن القطاع سيسير على خير ما يرام وسط التدخلات السياسية، خصوصاً أن هيئة الاشراف على هذا القطاع جاءت في تشكيلها وتعيينها انعكاساً سياسياً طائفياً!.

إن بلداً تتناتشه لوثة السياسة لا يمكن أن يكون قريباً من تحقيق معدلات تنموية مبشّرة كما هي الحال في النروج، وأغلب الظن أن مستقبل النفط في لبنان سيكون أشبه بما هو عليه في نيجيريا في ظل الفلتان السياسي والأمني وغياب الوجود الفاعل للدولة التي لا تستطيع ضبط حدودها ولا تصرفات المافيات المترابطة بين سياسي وتجاري.

في لبنان، الذي بات في رأي شريحة واسعة من مواطنيه أقرب إلى أن يكون دولة فاشلة، يفتقد كل شيء الرؤية البعيدة المدى. وبين التجربتين النروجية الناجحة والنيجيرية الفنزويلية المافيوية، الخوف أن يكون لبنان غرق في الثانية قبل أن يبدأ!

شارك المقال