مؤتمر جنيف 2.0… الجنون المتكرر

محمد شمس الدين

إنفجر العشاء في السفارة السويسرية في وجه الجميع، بعد تغريدة من سفير المملكة العربية السعودية في لبنان وليد بخاري، حذر فيها من تفكيك الكيان اللبناني، وقال: “وثيقةُ الوفاقِ الوطنيِّ عقدٌ مُلزمٌ لإرساءِ ركائزِ الكيانِ اللبنانيِّ التعدديِّ، والبديلُ عنهُ لن يكونَ ميثاقاً آخر بل تفكيك لعقدِ العيشِ المُشتركِ، وزوالِ الوطنِ الموحَّد، واستبدالهُ بكيانات لا تُشبهُ لُبنانَ الرسالةَ”.

الأمر الذي فُهم منه أن السعودية غير راضية عن العشاء السويسري التحضيري لمؤتمر حول لبنان، فكرت سبحة الرفض للعشاء، اعتذرت “القوات”، انتقد عدد من النواب الأمر وتم تطييره إلى الأسبوع المقبل، حتى أن راعية العشاء، السفارة السويسرية في لبنان، أكدت أن العشاء غير رسمي، وهي تسعى الى تعزيز الحوار بين الأطراف اللبنانية، بالتعاون مع منظمة مركز الحوار الانساني التي تتخذ من سويسرا مقراً لها، لافتة الى أنه تم التواصل مع جميع الجهات الفاعلة السياسية اللبنانية والاقليمية والدولية للتحضير لمناقشات تشاورية وليس لمؤتمر حوار.

إذاً، يبدو أن العشاء “غير الرسمي” كان لجس نبض القوى المحلية والاقليمية، وقد خاض لبنان العديد من المؤتمرات بعد أزماته، قبل الحرب الأهلية وبعدها، وهي ليست المرة الأولى التي يكون لسويسرا الغرب دور في سويسرا الشرق، فتاريخ لبنان يدين لها بمؤتمرين للحوار الوطني إبان الحرب الأهلية، جنيف عام 1983، ولوزان عام 1984.

مؤتمر جنيف: عقدت أولى اجتماعاته عصر يوم 31 تشرين الأوّل 1983 بمشاركة الرئيس أمين الجميل، كميل شمعون، سليمان فرنجية، عادل عسيران، صائب سلام، رشيد كرامي، بيار الجميل، نبيه بري ووليد جنبلاط، وبمراقبة وفد سعودي برئاسة وزير الدولة السعودي محمد إبراهيم مسعود، وقوامه السفير السعودي في بيروت الشيخ أحمد الكحيمي ورفيق الحريري، ووفد سوري قوامه نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية السورية آنذاك عبد الحليم خدام.

وتركز البحث يومئذ على إلغاء اتفاق 17 أيّار كشرط لإنجاح الحوار اللبناني – اللبناني. وبعد ثلاثة أيام، أنهى المؤتمر أعماله بالاتفاق على هوية لبنان العربية، وبفشل الاتفاق على إلغاء اتفاق 17 أيّار. ودعا البيان الختامي رئيس الجمهورية إلى الاستمرار في السعي الى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي. وتقرر عقد الحلقة الثانية من الحوار في 14 تشرين الثاني، لكنها لم تعقد، بسبب التطورات الداخلية، ثم اشتعلت حرب الضاحية وأعلنت انتفاضة 6 شباط التي أخلى الجيش اللبناني على أثرها مواقعه في بيروت الغربية. وبعد ذلك، أعلن الرئيس الأميركي رونالد ريغان سحب وحدات “المارينز” وانسحبت وراءها الوحدات المتعددة الجنسية.

مؤتمر لوزان: بعد الانتفاضة عقد مجلس الوزراء اللبناني جلسة في 5 آذار 1984، تقرر فيها إلغاء اتفاق 17 أيّار واعتباره باطلاً وكأنه لم يكن مع ما ترتب عليه من آثار، كما تقرر إبلاغ قرار الإلغاء إلى كل الأطراف الموقّعة عليه. هذا الإلغاء فتح الطريق أمام جولة جديدة من مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد في لوزان في 12 آذار 1984، وركز فيه المجتمعون على وقف إطلاق نار فعلي وثابت، إلى صيغة للاصلاح السياسي، فتقرر تشكيل لجنة أمنية عليا برئاسة رئيس الجمهورية أنيط بها تنفيذ خطة أمنية لإقامة بيروت الكبرى، وتشكيل هيئة تأسيسية لوضع مشروع دستور جديد للبلاد. وفي منتصف نيسان، اتفق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، فتشكلت برئاسة رشيد كرامي وعضوية كميل شمعون وعادل عسيران، وسليم الحص ونبيه برّي ووليد جنبلاط وبيار الجميل وجوزيف سكاف وعبد الله الراسي وفيكتور قصير.

مؤتمر الطائف: لم ينفع كل من مؤتمري جنيف ولوزان، واستمرت الحرب الأهلية والاشتباك بين الأطراف اللبنانية حتى أيلول العام 1989، عندما رعت لجنة ثلاثية عربية، على رأسها المملكة العربية السعودية، المؤتمر في مدينة الطائف، ووضع حداً لـ 15 سنة من الاقتتال، وأفضى إلى توزيع السلطة، وبعدها الانتقال إلى الدولة المدنية.

مؤتمر سان كلو: لم ينفذ اتفاق الطائف، الأمر الذي أدى إلى أزمة نظام مجدداً عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الذي كان أحد رعاة الاتفاق، وشلت المؤسسات وتعطل البلد وعمت المظاهرات من المحورين المشتبكين في البلد، وبعد سنة على حرب مع العدو الصهيوني، أقدمت فرنسا عام 2007 على مبادرة تجمع الأطراف اللبنانية، وعقد المؤتمر في سان كلو قرب العاصمة الفرنسية، لم يفضِ إلى أي نتائج ولكن طرحت المثالثة فيه كحل لأزمة النظام، إلا أنها لم تلقَ تجاوباً مع غالبية القوى اللبنانية.

مؤتمر الدوحة: بعد فشل سان كلو، والحوارات اللبنانية الداخلية، اشتدت الأزمة في البلد، وحصلت مناوشات مسلحة في مناطق لبنانية عدة، أفضت في نهاية الأمر إلى حرب أهلية مصغرة، عرفت بـ 7 أيار، مما دفع الدول الاقليمية إلى التدخل مجدداً، وعقد مؤتمر الدوحة في قطر عام 2008، لم يغير في النظام اللبناني، ولكنه أفضى إلى الاتفاق على الاستحقاقات الدستورية، رئاسة الجمهورية، الحكومة ورئيسها، والانتخابات النيابية.

وبين المؤتمرات الدولية، كانت هناك محاولات عدة لحل الأزمة اللبنانية عبر طاولات حوار داخلية، إلا أنها جميعها باءت بالفشل، بعد الوقوف عند بند سلاح “حزب الله”.

اليوم، هناك توجه الى عقد مؤتمر جديد للبنان، ويبدو أن فكرة المؤتمر التأسيسي تدغدغ أحلام بعض الأطراف اللبنانية، ولكن أليس هذا تكرار للأخطاء السابقة نفسها؟ كل عقد من الزمن أو أكثر بقليل، يدخل لبنان في أزمة سياسية، تتحول إلى أزمة نظام، تتدخل الدول الاقليمية، تفرض جلوس اللبنانيين على الطاولة نفسها، يخرجون بتفاهم، ثم يعاد الفيلم من أوله. أليست الأولوية لتطبيق الطائف الذي لم يطبق؟ هل الذهاب نحو نظام جديد يكرّس محاصصة الطوائف مجدداً هو الحل للبنان؟

قال العالم ألبرت أينشتاين: “الجنون هو تكرار فعل الشيء نفسه عدة مرات وتوقع نتائج مختلفة”. وهذا ما يفعله اللبنانيون، كل بضع سنوات يعيدون التاريخ نفسه، ولم يفكروا مرة في الخروج من الخطط المعلبة التي تفضي إلى النتائج نفسها. فلا حاجة الى عقد اجتماعي جديد طالما لم يطبق القديم، وفي الوقت نفسه لا مانع من تطوير القديم، ولكن كل ما يؤدي إلى التقسيم على أساس طائفي، إن كان مثالثة أو فدرلة أو حتى أي فكرة جديدة مشابهة، توزع الحصص على الطوائف بدل أن تتجه إلى الدولة المدنية، هو ضرب من الجنون، وقتل لبنان الرسالة.

شارك المقال