تعديل الدستور… بين المجاهرة والمواربة!

رامي الريّس

المشكلة السياسيّة الراهنة في لبنان ليست دستوريّة أو قانونيّة. صحيحٌ أن ثقافة انتهاك الدستور والدوس على بنوده باتت متجذرة في الأدبيّات والممارسات السياسيّة اللبنانيّة بفعل سياسات التعطيل الممنهج التي مورست من قبل بعض الأطراف على مدى السنوات الماضية؛ ولكن طبيعة المشكلة الراهنة لا سيّما المتصلة بتأليف الحكومة الجديدة هي مشكلة سياسيّة وليست دستوريّة.

 

إنها مشكلة ثقة بالدرجة الأولى يتم إلباسها اللباس الدستوري، تارةً من خلال مطالب تعجيزيّة وطوراً من خلال إفتعال مشكلة صلاحيّات دستوريّة. ولكن القضيّة في عمقها تتعدى الأرقام والحقائب والتوزيع المناطقي والطائفي والمذهبي. المسألة الأخطر هي الإصرار الخفي على تعديل الدستور بالممارسة، وهي أكثر ضرراً من المجاهرة بالسعي لتعديله.

 

فالمجاهرة بالمطالبة بتعديل الدستور هي مطلب ديمقراطي محق، طالما أن الدستور ليس كتاباً مقدساً منزلاً من السماوات، إنما هو قانون عام قابل للتعديل والتطبيق، ولو أنه يكتسب صفة القانون الأسمى والأعلى في الدولة. فالدساتير تستحق المراجعة والتطوير لمواكبة المتغيرات ولتكريس توازن السلطات وتعاونها. ولكن تعديل الدستور يتطلب ظروفاً سياسيّة وموضوعيّة مؤاتية لا تكون فيها موازين القوى مضطربة ومختلة لمصلحة أطراف على حساب أطراف أخرى.

 

إن هذه الظروف ليست متوفرة راهناً في لبنان، لا بل من الممكن الإدعاء أن أي محاولة حالياً لتعديل الدستور تستبطن تثبيت الخلل العميق في موازين القوى المحليّة في المرحلة الراهنة وتكريسه على مدى فترة زمنيّة مقبلة بما يؤدي إلى تغيير وجه لبنان ودفعه للالتحاق بمحاور إقليميّة معيّنة على حساب انتمائه العربي التاريخي.

 

ولكن الأخطر من المجاهرة هو المواربة أي السعي الخفي لتعديل الدستور من خلال فرض أعراف جديدة أو من خلال التفسير الضيّق لمفاهيم الدستور وتفصيلها على مقياس هذه المرجعيّة السياسيّة أو تلك بما يعرّض التوازنات الداخليّة الدقيقة إلى اختلالات عميقة ويولد أزمات جديدة قد لا تخلو من الأبعاد الطائفيّة والمذهبيّة وهي الثوب الجاهز دائماً لإسقاطه على أي خلاف أو تباين أو صراع.

 

المشكلة الحقيقيّة تكمن في تدني مستوى الثقافة الدستوريّة وبالتالي في التعاطي بخفة مع مبادئ هذا القانون الأسمى وأحكامه وفي شعور البعض بأن تجاوزه هو مسألة عابرة في الحياة الوطنيّة والسياسيّة طالما أن لا تبعات تلي ذلك التجاوز أو تضعه رهن المحاسبة والمساءلة. لذلك، أصبح تفريغ المؤسسات الدستوريّة من دورها وعملها ومضمونها هو القاعدة فيما فاعليتها ونشاطها وتأدية دورها هو الاستثناء!

 

إن نضوج العمليّة الدستوريّة مسألة صعبة ومعقدة لا سيّما في الدول التعدديّة مثل لبنان حيث تتداخل وتتشابك الاعتبارات الطائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة وتغذيها التأثيرات الإقليميّة والدوليّة التي قد تشهد تبدلاً من ناحية هويّة اللاعبين المؤثرين كما تشهد ثباتاً من حيث إستمراريّة التدخل الخارجي كعامل مؤثر في صياغة الواقع المحلي اللبناني.

 

ولكن الأصعب من إنضاج العمليّة الدستوريّة هو إنضاج الثقافة الدستوريّة التي ترتكز إلى نظرة تعتبر الدستور قانوناً واجب الاحترام بشكل عميق، وأن مخالفته تماثل الخيانة العظمى. فأين نحن من كل ذلك؟ إذا كان قانون السير يُطبّق اعتباطيّاً في لبنان، فكم بالحري القانون الدستوري؟

كلما تقدّم الزمن، كلما ابتعد مشروع الدولة المرتجاة! بئس المصير!

 

 

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً