الأسد الخائب… أنتظركم في البحر!

أنطوني جعجع

لم ينس الرئيس بشار الأسد أن الرئيس ميشال عون لم يزر دمشق خلال ولايته التي استمرت ست سنوات، آخذاً عليه تحالفه المطلق مع “حزب الله” وايران ووضع سوريا في المقاعد الخلفية.

ولم ينس كذلك، أن عون استسلم تماماً لمشيئة حسن نصر الله الذي اعتبر نفسه “الوريث الأوحد” للرئيس السوري والنفوذ الذي مارسته دمشق في لبنان منذ أربعينيات القرن الماضي، فلا أشركها في أي جولة من جولات ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، ولا تدخل لتمرير نواب موالين لها في الانتخابات النيابية الأخيرة أو وزراء في مواقع سيادية يعتد بها.

وأكثر من ذلك، لم ينس الأسد أن السلطة السياسية اللبنانية ومن دون اعتراض، علني على الأقل، من “حزب الله”، خضعت للضغوط الأميركية وصوّتت في الأمم المتحدة ضد ضم أراضٍ أوكرانية الى السيادة الروسية، الأمر الذي جعل الأسد في نظر الكرملين رئيساً صورياً لا نفوذ له خارج القصر الرئاسي.

ويدور همس في دوائر القرار في دمشق، أن عون تناسى الدور الذي لعبه الأسد لاعادته من باريس الى بيروت في اطار تفاهم جعل منه الزعيم الأقوى في المجتمع المسيحي لا بل المرشح الأقوى الى رئاسة الجمهورية، معتبرة المواقف التي اتخذها وزير الخارجية آنذاك جبران باسيل لمصلحة سوريا في القمم العربية جاءت من قبيل رفع العتب وحسب، وأن العزلة التي تعرض لها لبنان عربياً لم تاتِ نتيجة وقوفه مع نظام منكسر في دمشق، بل نتيجة تحالف مطلق مع ايران التي تقصف دول الخليج انطلاقاً من اليمن دائماً ومن أراضيها مرات.

وليس صحيحاً، أن هناك تحالفاً حقيقياً وجدياً وعضوياً بين دمشق وطهران كما يظن البعض، اذ أن الأسد بدأ يشعر بالاستياء حيال وجود “حزب الله” و”الحرس الثوري” في سوريا، الأمر الذي يجر الى أمرين محرجين: الأول إستمرار الغارات الاسرائيلية، من دون مقاومة فاعلة، على أهداف ايرانية في كل أنحاء البلاد، اضافة الى تحريك المياه الراكدة في الجولان، والثاني ظهور النظام السوري في مظهر المدين لقوات “حزب الله” أو التابع له، وهو أمر ترفضه دمشق معتبرة أن الجيش الروسي هو الذي أنقذ النظام وحال دون سقوطه وسقوط الهلال الايراني معاً، عندما كانت المعارضة ترابط على أبواب العاصمة السورية.

ولا يخفي مقربون من النظام الحاكم في دمشق، أن انتشار حلفاء ايران في سوريا، قد وضع مناطق واسعة تحت احتلال غير معلن، ومنع دمشق من اقامة أي تواصل مع الخارج يمكن أن يفك عزلتها أو أن يعيدها الى جامعة الدول العربية أو أن يسمح لها بابرام تفاهمات تتماهى مع البيئة العربية الجديدة المنفتحة على الأعداء والأصدقاء معاً.

وكشف هؤلاء أن الأسد فتح أبوابه أمام حركة “حماس” المطرودة من تركيا، لاطلاق رسالتين مباشرتين: الأولى نحو ايران تبلغ اليها أن دمشق التي فقدت الورقة اللبنانية يمكن أن تعوّل على الورقة الفلسطينية، والثانية نحو اسرائيل وأميركا وتركيا تبلغ اليها أنها قادرة على خلخلة أي تفاهم يقام مع لبنان أو طهران على حساب سوريا أو من دونها على الأقل.

ويهمس هؤلاء، أن سوريا التي وقفت ضد كل العرب خلال الحرب الايرانية – العراقية في ثمانينيات القرن الماضي، لن تقف اليوم ضد الكرة الأرضية كلها من أجل نظام محاصر ومعزول في طهران، مؤكدين أن الوقت حان كي تنخرط سوريا في العالم الجديد الذاهب الى المصالحات التي لا بد منها بدل العداوات التي لا جدوى منها في ظل النقص الواضح في توازنات الرعب والقوى معاً.

وأكثر من ذلك، لا يمكن لأي رئيس سوري أن ينظر الى لبنان كدولة مستقلة لها حدود نهائية مع بلاده أو تمارس سيادة مطلقة في بيروت لا تمر بدمشق أو لا تحظى بتطنيش من قصر المهاجرين.

وفي عز هذا المشهد القاتم، قرر عون الانطلاق بترسيم الحدود البحرية مع سوريا، في مسعى كان يعرف مسبقاً أنه لن يلقى تجاوباً من دمشق التي لم تهضم حتى الآن قيام دولة على حدودها اسمها لبنان.

وجلّ ما كان يريده عون، الظهور بمظهر “الحارس” الذي أبى أن يغادر القصر الرئاسي قبل فتح بعض النقاط التاريخية الساخنة التي لم يتجرأ أحد من قبل على الاقتراب منها، مرتكباً الخطيئة العظمى في نظر الأسد الذي رأى في الموقف اللبناني المهرول، مساواة في التعامل مع دولة عدوة ودولة شقيقة.

وأكثر من ذلك، اعتبر الأسد أن أي انتصار كان يبحث عنه عون في نهاية عهده لا يجب أن يأتي على حساب سوريا، ملمحاً الى أن ما جرى مع اسرائيل سيكون “نزهة” مقارنة مع ما يمكن أن يجري مع بلاده.

ويتردد في دوائر القرار في دمشق أن الاسد لا يعتبر نفسه في حال اعتداء على أي منطقة بحرية أو برية في لبنان، وبالتالي فان أي مطالبة بترسيم حدودي هي نوع من الكفر أو المؤامرة، يساعده في ذلك فريق لبناني يرفض فتح أي ملف حدودي مع الجار السوري وفي مقدمه حركة “أمل” ومن خلفها “حزب الله” الذي يعتبر سوريا ولبنان جزءاً من الهلال الايراني الممتد من طهران الى المتوسط.

ولا يبدو الأسد في ما يتعلق بانتخابات الرئاسة في موقع أفضل حالاً، فهو يعتبر أن “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” يعملان لاختيار رئيس يشبه ميشال عون وليس الياس الهراوي أو إميل لحود، لا بل يسعيان الى استبعاد المرشح الرئاسي الأقرب الى القيادة السورية أي سليمان فرنجية من أي فرصة تسمح له بدخول قصر بعبدا، متسلحين بسلاح “التوافق” المسبق بين الممانعة والمعارضة.

والواقع أنها من المرات القليلة جداً منذ الأربعينيات التي يجد النظام السوري نفسه خارج دائرة النفوذ الأقوى في لبنان، والمحور الذي يجد نفسه أقرب الى المتفرج منه الى المقرر.

والواقع أيضاً أن الأسد وجد في مطالب الترسيم فرصة ثمينة للعودة الى الساحة اللبنانية من جهة والساحة الدولية من جهة ثانية، مستغلاً حاجة العالم الى الطاقة، ومطمئناً الى غياب أي نية لدى “المقاومة الاسلامية” للدخول في أي مواجهة معه خشية أن يدفع ذلك الى كسر الجرة بين الفريقين الى الحد الذي قد يصل الى احتمال اصدار طلب رسمي بانسحاب ايران وحلفائها من بلاده، في مقابل التخلص من العقوبات الأميركية وفي مقدمها قانون قيصر… وقد يرى بعض حلفاء سوريا في هذا المشهد الكثير من المبالغة، لكن ما جرى في موضوع الترسيم البحري مع اسرائيل، كسر كل المحظورات والحساسيات الخاصة بالصراع مع الدولة العبرية، وحرر القسم الأكبر من العرب وبينهم السوريون، من أي خطوة قد تقود الى تفاهمات مع تل أبيب سواء رضيت ايران أو عارضت.

وما عزز هذا الانطباع، الصمت السوري حيال ما كان يجري في الناقورة، وهو النسخة المنقحة عما كان يجري بين خلدة ونهاريا في ثمانينيات القرن الماضي في الزمن الذي قال فيه الرئيس حافظ الأسد: “لو كانت مصر جارتي لعملت على إسقاط اتفاقات كامب ديفيد”.

وثمة من يهمس في دمشق قائلاً: “لو كنا نعرف أن (الحركة الوطنية) التي يمثلها حزب الله اليوم، قد ترضى بمثل ما جرى في البحر لما كنا ساعدناها لاسقاط اتفاق ١٧ أيار وادعينا بطولات في غير محلها…”.

وأضاف: ان دمشق لا يمكن أن تقبل واقعاً في جنوب لبنان يتنعم فيه “حزب الله” بهدنة دولية مع اسرائيل، ويحوّل سوريا الى “جنوب بديل” يضعها في مواجهة شبه يومية مع الآلة العسكرية الاسرائيلية.

وختم: كان على الرئيس عون أن يعرف حجم الحنق الذي تشعر به القيادة السورية التي تتهم المصارف اللبنانية بابتلاع أربعين مليار دولار عائدة للسوريين، وحجم المهانة التي وجهت اليها خلال الانتخابات النيابية الأخيرة ومفاوضات الترسيم قبل أن يحاول لعب دور “البطل” في مكان أو دور الصديق أو الحليف الذي يجهل أو يتجاهل أن الصداقة لا يمكن أن تكون من طرف واحد، وأن التحالف لا يعني أن تأخذ الرئاسة وتعطي ثمنها مرة للايرانيين ومرة للفراغ …

لكن مصادر عون ترفض هذه المآخذ، وتعتبر أن “الجنرال” أعطى الأسد أكثر مما أخذ، اذ يكفي أنه لم يفتح ملف المفقودين اللبنانيين في السجون السورية، ولم يسهم لا من قريب ولا من بعيد في كشف الدور السوري في اغتيال رفيق الحريري، وفي مجزرة المرفأ وفي الكثير من التفجيرات والمؤامرات والاغتيالات التي طاولت عدداً من قادة “الرابع عشر من آذار”، فتحول في نظر الكثير من أنصاره اما الى “شريك قسري” في مكان واما الى “متواطئ طوعي” في مكان آخر.

وانطلاقاً من هذه المعطيات التي تترافق مع ثورة الشارع في ايران والحرب في أوكرانيا، يقف لبنان أمام صراع جديد مع سوريا، أو بالأحرى مع الأسد الذي يرى وجود فرصة ثمينة للعودة الى الساحة العربية والدولية من بوابة الأمن والطاقة، ولافهام اللبنانيين أن استحالة العودة اليهم عبر البر لا تعني استحالة العودة من البحر.

شارك المقال