أبو عمار في ذكرى رحيله: رمز الثورة ومطلق الرصاصة الأولى (1)

زياد سامي عيتاني

في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني من العام 2004، خسرت المقاومة الفلسطينية شعلتها المضيئة ورمز نضال قضيتها الزعيم ياسر عرفات “أبو عمار”، الذي أمضى حياته مناضلاً ثورياً، طوال أربعين عاماً، منذ نكبة 1948، في سبيل إستعادة حقوق الشعب الفلسطيني المغتصبة من العدو الصهيوني، سالكاً طريقاً حالك الظلام نحو فلسطين، مجاهداً ومناضلاً على جبهتين متناقضتين: جبهة تحرير التراب الفلسطيني من رجس المحتل، وجبهة المحافظة على إستقلالية القرار الفلسطيني من هيمنة بعض الأنظمة والحكام العرب، الذين كانوا يسعون بشتى وسائل الدسائس والمؤامرات الدنيئة الى الإمساك بالقرار الفلسطيني، لتحويله إلى ورقة ضغط في أيديهم للمساومة على حساب قضية العرب المركزية، مما جعلها عرضة دائمة للاستهداف ليس من العدو الصهيوني وحسب، إنما بالحجم نفسه ممن كانوا يدّعون زوراً دعمهم وتبنيهم لها.

وعلى الرغم من حجم التآمر على القضية الفلسطينية، ومحاولات مصادرة القرار الفلسطيني، فقد تمكن أبو عمار بفضل ما كان يتمتع به من صفات ومزايا إستثنائية تجمع بين أن يكون مناضلاً ثورياً وسياسياً محنكاً، من أن يسير بين الألغام العدوة والشقيقة، حتى يحافظ على القضية وإستقلال قرارها، مستوعباً كل الفصائل الفلسطينية المتنافضة فكرياً وعقائدياً والمدعومة من الأنظمة الساعية الى الإمساك بالقضية، وذلك بفضل شخصيته القيادية الفذة، التي مكنته من أن يفرض نفسه رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن يحظى بثقة الجميع، وأن ينتزع إحترامهم.

كذلك، كان يتمتع ياسر عرفات بقدرة هائلة على التكيف والتعاطي مع التطورات والتقلبات والتحولات السياسية، ذات التأثير على القضية التي حملها بكل أمانة.

فكان يجيد ببراعة متى يحمل البندقة، ومتى يستدعي الموقف أن يحمل غصن الزيتون، الذي رفعه مرتين: مرة عام 1974 عندما ألقى كلمة فلسطين في الأمم المتحدة، والأخرى عام 1993 عندما نادى للعمل من أجل سلام الشجعان، عند توقيع اتفاقية إعلان المبادئ في واشنطن، داعياً الى العمل من أجل إحلال السلام القائم على العدل، لا السلام القائم على الظلم والاضطهاد.

إسمه الحقيقي:

إسم ياسر ليس هو إسمه الحقيقي، وإنما أطلق عليه منذ طفولته المبكرة، لسماحة وجْهه. أمّا إسمه الحقيقي فهو محمد عبد الرؤوف عرفات القدوة حسب قول أحد رفاقه في حركة “فتح”. أما “أبو عمار” فهو إسمـه الحركي، الذي أطلقه على نفسـه، تيمناً بالصحابي عمار بن ياسر.

رئيس إتحاد طلاب فلسطين:

يصعب القول إن الزعيم ياسر عرفات، عاش مراهقة، كسائر أقرانه وزملائه، التي عاشها في مصر بعد إنتقال عائلته إليها، بحيث كان مولعاً بالسياسة، والشؤون العسكرية، يشغله إحتلال الاستعمار للعالم العربي. وشارك في المظاهرات المعادية للاستعمار الإنجليزي في مصر.

وانضم في شبابه إلى الحركة الوطنية الفلسطينية، من خلال الانضمام إلى “اتحاد طلاب فلسطين” عام 1944، الذي ترأسه، بين العامَين 1952 و1968.

محارب الانكليز في السويس:

إنضم عرفات، إلى مجموعة المناضلين المصريين، محارباً معهم الانجليز في منطقة قناة السويس، بين العامَين 1951 و1952؛ حيث تعرّف إلى بعض قادة الثورة المصرية، وأقنعهم بأن يقبلوا أول دفعة من الضباط الفلسطينيين من أبناء قطاع غزة في الكلية الحربية المصرية. وكان هؤلاء هم دعائم جيش التحرير الفلسطيني، ومنهم قائد قوات “عين جالوت” منصور الشريف ومساعد رئيس الأركان عبد الرازق المجايدة وفخري شقورة.

نشأة حركة “فتح”:

كان عرفات على قناعة بأن الأحزاب السياسية القائمة، والأنظمة العربية الموجودة في تلك الفترة، لا تستطيع عمل شيء للقضية الفلسطينية، ما دفعه إلى إنشاء معسكر لتدريب طلاب الهندسة، الراغبين في الاشتراك في الأعمال الفدائية، المتصدية للبريطانيين في منطقة السويس، ثم إنشاء حركة “فتح” فيما بعد.

وأدرك عرفات فيما بعد غياب تنظيم يجسد الشرعيّة الفلسطينية تجسيداً حقيقياً وفاعلاً، وأهمية الاتصال بمختلف القيادات الفلسطينية في أماكن وجودها، في غضون الأنشطة الطلابية للشباب الفلسطيني. وتشكلت أول نواة فلسطينية، عام 1954 في غزة، لمحاربة العدوّ الإسرائيلي، فيها خليل الوزير “أبو جهاد”، وكذلك أبو يوسف النجار، وصلاح خلف “أبو أياد”.

عام 1956، حضر “أبو جهاد” إلى القاهرة لاكمال تعليمه فبدأ التحرك مع “أبو عمار” في إتجاه تشكيل حركة فلسطينية مستقلة، بحيث وضعا معاً في القاهرة، المبادئ الأولية، التي إنطلقت منها حركة “فتح”.

سافر عرفات إلى الكويت عام 1957 للعمل فيها. وكان مهندساً، يتمتع بكثير من التقدير والاحترام في وزارة الأشغال العامة في الكويت. وامتلك ثروة هائلة، كان ينفقها على تحركاته، وتحركات رفاقه، التي مهدت لإعلان حركة “فتح”.

والتقى كلاً من خليل الوزير وفاروق القدومي وعادل عبد الكريم ويوسف عميرة، في الكويت، حيث شُكِّلت أول خلية لحركة “فتح”، توسعت فيما بعد، لتكون أول لجنة مركزية على الأرض الكويتية، حيث كان يصرف عليها من شركته الخاصة. والتف حوله عدد قليل في سِّرية تامة.

وإجتمع مؤسسو حركة “فتح” في الكويت، في 10 تشرين الأول 1959، فكان إجتماعهم، النواة الأولى لِما سيصبح في أقلّ من عشر سنوات، أقوى منظمة تحرير وطني عرفتها فلسطين؛ إذ أمكن إعداد عدة وثائق، والموافقـة عليها في شأن بناء الحركة ونظامها الداخلي، وإستراتيجيتها، ووسائـل عملها وتمويلها.

في تلك الفترة، زار عرفات بكين مرتَين قبل أن يصبح رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية: الأولى عام 1964، والثانية عام 1966، وأسفرتا عن وعود بالمعونة، تجسدت بعد حرب 1967 إذ تلقّى العديد من الجماعات الفدائية التدريب العسكري منذ العام 1968، في معسكرات الصين.

مطلق الرصاصة الأولى:

كان ياسر عرفات، هو صاحب الرصاصة الأولى للثورة الفلسطينية، ليلة رأس السنة من عام 1965، ولم يكن قد تجاوز عمره 35 عاماً.

ففي ليلة الأول من يناير/ كانون الثاني عام 1965 نفذت حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” أولى عملياتها ضد الاحتلال الإسرائيلي بنسف محطة مائية. وقام عرفات بتسليم نص البيان الأول إلى صحيفة “النهار” اللبنانية بنفسه، فظهر أول مرة، إسم “فتح”، وإسم أبو عمار.

ويذكر في هذا السياق أن أبو عمار كان يشرف على العمليات الفدائية، ويتقدم الشباب في العمل الفدائي، في بداية تكوين “فتح”. وفي أعقاب حرب عام 1967 انتقل عرفات الى العمل السري في الضفة الغربية المحتلة، حيث قام بتنظيم مجموعة من خلايا المقاومة، واستمر ذلك مدة أربعة أشهر.

الاعتقال في سوريا:

أوقفت السلطات السورية عام 1965 عرفات لاشتباهها بإشتراكه في تخريب خط أنابيب التابلاين، ثم أفرجت عنه بعد بضعة أيام لعدم وجود أدلة تدينه.

كما أودعته السلطات في سوريا، سجن المزة مع بعض قادة “فتح”، الذين كانوا في دمشق حينها، ومنهم خليل الوزير ووليد أحمد نمر وممدوح صيدم. ووجهت إليهم اتهامات بإغتيال اثنَين من أعضاء “فتح”، في نهاية فبراير/شباط 1966، كانا يعملان لمصلحة النظام السوري. ولكنها أفرجت عنهم بعد جدال عنيف، على أثر اتصالات صلاح خلف، وفاروق القدومي، ومحمد يوسف النجار مع وزير الدفاع السوري في تلك الفترة، حافظ الأسد؛ وبعد أن طرح عليهم العديد من الأسئلة عن “فتح”، وأيديولوجيتها وأهدافها، وعن عرفات خصوصاً، الذي كان يعرف حينها، باسمه القتالي “رؤوف”.

معركة الكرامة:

بدأت “فتح”، بقيادة عرفات، تبني مواقعها الارتكازية، على طول نهر الأردن، بعد هزيمة عام 1967. وحينما إشتد العمل الفدائي، في مطلع العام 1968، شنت إسرائيل هجوماً على مدينة الكرامة؛ فطلبت السلطات الأردنية من عرفات الانسحاب منها؛ ولكنه رفض ذلك، وخاض معركة من أعظم المعارك الفدائية وأعجبها، ومعه عدة مئات من الفدائيين، كبّد فيها إسرائيل خسائر بشرية ومادية، وأجبر قواتها على الانسحاب، بعد أن عجزت عن تحقيق أي تقدم، وأرهقها أسلوب حرب العصابات.

الناطق الرسمي بإسم “فتح”:

أعقب ذلك تعيين عرفات في 15 نيسان 1968، ناطقاً رسمياً باسم حركة “فتح”، التي بدأت بعدها الاتصالات بينها وبين منظمة التحرير من أجل إنعقاد المجلس الوطني الفلسطيني الرابع، في تشرين الأول 1968 في القاهرة، حيث إتفق على وضع الأسس اللازمة لإعادة تكوين منظمة التحرير الفلسطينية.

رئيس منظمة التحرير:

في الأول من شباط 1969، إنعقدت الدورة الخامسة للمجلس الوطني الفلسطيني، بحضور جميع المنظمات الفدائية، باستثناء “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، و”جيش التحرير الفلسطيني”، اللذين عارضا سيطرة “فتح” على معظم مقاعده. وإنتهت الدورة إلى انتخاب عرفات رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

توحيد النضال الفلسطيني:

سعى عرفات إلى حل الخلافات الداخلية بين فصائل المقاومة الفلسطينية، فعقدت اللجنة التنفيذية إجتماعاً، في عمّان، في 16 و17 شباط 1969، وقررت تشكيل هيئة باسم “قيادة الكفاح المسلح الفلسطيني”، بمشاركة الفصائل كافة.

كما اتخذت قراراً يقضي بتطوير “جيش التحرير الفلسطيني”، وزيادة عدده وقدرته، وتطوير أسلحته. وكذلك قراراً يضمن رعاية المرضى، والمصابين، والشهداء، والأسْرى من ذلك الجيش، ومن “قوات التحرير الشعبية”، والمدنيين الفلسطينيين في داخل فلسطين وخارجها.

أبو عمار في ذكرى رحيله: رمز الثورة ومطلق الرصاصة الأولى (2)

أبو عمار في ذكرى رحيله: رمز الثورة ومطلق الرصاصة الأولى (3)

شارك المقال