الورقة البيضاء وتعطيل النصاب

جورج حايك
جورج حايك

تتكرر عملية التصويت بورقة بيضاء في الجلسات المتتالية لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، ويستخدمها “حزب الله” وحلفاؤه كخيار ديموقراطي أو بمعنى آخر كحق يراد به باطل، لأن هذا الحق تتيحه اللعبة الديموقراطية للاعتراض على المرشحين المطروحين، ولكن قد تعتبر النيّة حسنة إذا كان بعض النواب لم يحسم أمره بعد لترشيح أحد أو للتصويت لأحد المرشحين الطبيعيين، إلا أن تكرار هذه العملية في جلسات عدة من مجموعة نواب معروفي الانتماء يقلب لون هذه الأوراق إلى الأسود، فتصبح أوراقاً سوداً هدفها تعطيل اللعبة الديموقراطية ومنع انتخاب رئيس، وخصوصاً إذا تلا هذه العملية انسحاب نواب من الجلسة لتعطيل النصاب في الدورة الثانية.

الفريق الموالي لـ”حزب الله” والذي يضم بصورة أساسية حركة “أمل” و”التيار الوطني الحر” وحزب “الطاشناق” وعدداً من المستقلين، عجز عن الاتفاق على مرشح واحد حتى اللحظة، فاختار الاقتراع بورقة بيضاء، لتفادي إظهار سليمان فرنجية بموقع الضعيف، وهو المرشح الأبرز في صفوف هذا الفريق لكنه لا يحظى بتأييد “العونيين”.

إذاً هذا الفريق المأزوم لا يريد لعبة انتخابية ديموقراطية، إنما يطمح إلى جرّ الفريق المعارض إلى تسوية يتم فيها الاتفاق على “تعيين” رئيس للجمهورية توافقي، لا يقترب من مشروع “حزب الله” وسلاحه، بحيث لا يحل ولا يربط، ويصح فيه القول بأن لا لون ولا طعم له.

لكن هذه العملية التي قد تطول، توحي بأن وضع البلد مستقر ومزدهر اقتصادياً والفريق الممانع لديه ترف ممارسة لعبة الورقة البيضاء وتعطيل النصاب إلى أبد الآبدين، فيما الحقيقة أن لبنان يعاني من انهيار اقتصادي صنّفه البنك الدولي بين الأسوأ في العالم، خسرت معه العملة المحلية نحو 95 في المئة من قيمتها، ويعيش أكثر من 80 في المئة من اللبنانيين تحت خط الفقر. وبالتالي لبنان بحاجة إلى انتخاب رئيس للجمهورية سريعاً للبدء بورشة الإنقاذ.

لذلك يرتكب فريق 8 آذار جريمة سياسية من خلال هذا الأداء غير المسؤول، ولا يمكن تسمية النواب الذين يمارسون هذا الاداء إلا بـ”الزعران” لأن حياة اللبنانيين ومستقبلهم ليسا لعبة في يد هذا الفريق المسلّح والفاسد.

في المقابل، يتعامل الفريق المعارض الذي يصوّت للمرشّح النائب ميشال معوّض بمسؤولية، وتسجّل له خطوة الاصرار على خوض اللعبة الديموقراطية واحترام الدستور، وهو فريق لا يخضع سوى للدستور والقانون وضميره قادر على كسر السلاح وتحرير لبنان من قبضته ونقله من حالة التخلُّف التي انزلق إليها مع محور الممانعة، إلى حالة التألُّق التي ارتبطت تاريخيّاً باسم لبنان.

يعرف الفريق الممانع أن وصول معوّض إلى قصر بعبدا لن ينهي سلاحه، لأنه لن يسلِّم هذا السلاح، ولا قوة قادرة اليوم على انتزاعه، ولكن الرئيس السيادي والانقاذي الذي تنطبق مواصفاته على معوّض، بإمكانه تعطيل مفاعيل السلاح وتأثيره في المؤسسات والاستحقاقات الدستورية.

ويجب أن تتركّز مواجهة أي رئيس للجمهورية مع فريق الممانعة على أنّه عدا عن امتلاكه السلاح غير الشرعي فهو فريق انقلابي على الدستور وعلى كل الممارسة السياسية الديموقراطية السليمة، ولا يمتلك الحدّ الأدنى من ثقافة الحكم وإدارة المؤسسات، ومن الضروري إفهامه بأنّ التعايش تحت سقف هذه المؤسسات له قواعد وشروط وفي طليعتها الالتزام بالمهل الدستورية في انتخاب رئيس للجمهورية أو تكليف الحكومات وتأليفها.

ومن هنا، فإنّ الجهود كلّها يجب أن تتركّز على مزيد من رصّ صفوف المعارضة من أجل رفع منسوب الضغوط على نواب فريق الورقة البيضاء “الزعران” تمهيداً لانتخابات رئاسية تُنهي الشغور الرئاسي سريعاً، وتُفضي إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعيداً من فريق 8 آذار، لأن أي شخصية من هذا الفريق تعني استمرار لبنان في مستنقع الأزمة والفشل والانهيار والعزلة، وبعيداً من لائحة المسترئسين الذين أولويتهم كرسي الرئاسة وليس دور الرئاسة في السهر على تطبيق الدستور وعدم الخضوع لسياسة الأمر الواقع.

تُرى ماذا يريد “حزب” الله” ليتخلى عن الورقة البيضاء؟

في أسلوب استفزازي لا يشبه وجدان اللبنانيين، يعبّر النائب محمد رعد ونائب الأمين العام لـ”حزب الله” نعيم قاسم عن رغبتهما في التوافق مع قوى أخرى على رئيس وطني يؤمن بتكامل دور ثلاثيّة الجيش والشعب والمقاومة، وأن يكون ممتناً للمقاومة التي ساهمت في تحرير لبنان!.

الخلفيّة الأولى لهذا الكلام هي إذعان المعارضة لرغبة “حزب الله” من خلال تبني مرشحه أو تبني المواصفات المطلوب أن يتحلى بها، بنظره، رئيس الجمهورية، وهذا أبعد ما يكون عن التوافق، خصوصاً أنّ مواصفاته لا علاقة لها بفلسفة الدول والدساتير كلّها.

الخلفيّة الثانية أن يكون رئيس الجمهورية مؤيِّداً لما يسمى “المقاومة” ومدافعاً عنها، ويدرك هذا الفريق أنّ المعادلة الخشبية الثلاثية تشكل استفزازاً ما بعده استفزاز، وقد تقصّد استخدامها في معرض كلامه عن الصفات المطلوبة في رئيس الجمهورية، وقد وصلت الوقاحة إلى حدّ القول بأنّ الرئيس العتيد يجب “أن يكون ممتناً للمقاومة”، أي أن يضمِّن خطابه الرئاسي شكراً وامتناناً للمقاومة وأن يُقسم اليمين دفاعاً عن الدستور والمقاومة.

الخلفيّة الثالثة أنّ “حزب الله” يتجه أكثر فأكثر نحو الظروف التي تتيح له تحويل حزبه إلى حرس ثوري وحشد شعبي، ويؤكّد أنّ هدفه الوصول إلى تعديل الدستور من أجل تشريع دوره غير الشرعي.

وعليه، فإن مكوّنات المعارضة على اختلافها مدعوة الى اليقظة والتنبُّه، لأن انتخاب رئيس “بلا لون ولا طعم ولا رائحة” قد يرضي عواصم القرار من زاوية حصول الانتخابات الرئاسية في نظرة طوباوية بعيدة من الواقع، وقد يُرضي شريحة لبنانية معينة تريد الخلاص وتعتبر أن انتخاب رئيس لا ينتمي إلى أي من فريقي النزاع يشكل فرصة للبلد، فيما الواقع خلاف ذلك تماماً لثلاثة أسباب أساسية:

– السبب الأول لأن مهمة رئيس الجمهورية ليست العلاقات العامة بين القوى السياسية، إنما تطبيق الدستور وإدارة البلد وفقاً لمصلحة لبنان العليا.

– السبب الثاني لأن الانهيار مرده إلى فريقين أساسيين: المنظومة التي يرأسها “حزب الله”، والقوى التي تتجنّب المواجهة مع “الحزب”، فيما جلّ ما هو مطلوب من رئيس الجمهورية أن يَحكُم وفقاً للدستور لا أن يساير ويدوِّر الزوايا.

– السبب الثالث لأن من مصلحة “حزب الله” استمرار الستاتيكو الحالي، وهذا يعني استمرار الانهيار، فيما من مصلحة لبنان واللبنانيين انتخاب رئيس الجمهورية الذي يعيد للمؤسسات الدستورية دورها في ممارسة الحُكُم وليس أن يكون الحَكَم بين فريق مع الدولة وفريق مع الدويلة.

أمام خطورة مشروع “حزب الله” وموقفه من انتخاب رئيس الجمهورية، يبدو أن جزءاً من المعارضة متخاذل، ولا سيما بعض النواب التغييريين ونواب كتلة الاعتدال، فيضيّعون أصواتهم اما بعناوين فارغة أو بترشيح شخصيات غير مستعدة لخوض معركة الرئاسة في أداء عقيم، لا نعتقد أن الناس انتخبتهم لمثل هذا الأداء.

فهل يستفيق هؤلاء من سباتهم ومزايداتهم باعتبار أنّ مصير البلد معلّق هذه المرة على الانتخابات الرئاسية؟ وهل يصار إلى التخلّي عن الأنانيات وحبّ الظهور وتسجيل النقاط وتبدية مبادرات استعراضية على مصير وطن وشعب؟

فجلّ ما هو مطلوب في هذه المرحلة يكمن في توسيع مساحة التأييد حول مرشّح المعارضة الرئاسي النائب ميشال معوّض استعداداً للجولات الرئاسية التالية، وفي حال احتكم كل مَن في المعارضة إلى ضميره الوطني لن يكون من الصعوبة بمكان رفع عدد النواب المقترعين لمعوّض إلى حدود النصف زائداً واحداً.

ويكفي أن توحِّد المعارضة صفوفها حول مرشّحها معوّض من أجل إطلاق دينامية وطنية وسياسية وشعبية تقطع الطريق أمام مخطّط الفريق الآخر بفتح البلاد على شغور رئاسي يهيئ عبره ظروف انتخاب مرشحه الرئاسي وإبقاء لبنان في دوامة التأزُّم والفشل.

شارك المقال