في محن الزمان

علي نون
علي نون

لا تأتي محن الزمان المر بالمفرد على الناس، بل بالجملة وبكثافة وتتابع ونسق هندسي مرصوص.

ومحن لبنان وأهله هي من ذلك الطراز اللعين، الذي يتوالى ويتتابع ويتناسق في تدحرجه وتدرجه، من دون أي صدّ أو ردّ أو إرادة كافية لتلطيف تبعاته. لكن (والله أعلم) لم يسبق في وادي الدموع والدماء والبلايا السود هذا، أن شعر الضحايا اللبنانيون بهذا القدر من القنوط واليأس والنحس والإملاق، مثلما هي حالهم في هذه “المرحلة المصيرية من تاريخ أمتنا وشعبنا”! ومثلما هي حالهم، في الحقيقة، منذ أن تبوأ الرتل الممانع منصة الريادة والقيادة، وراح يمعن في “مراكمة الانتصارات والإنجازات والبطولات والتاريخيات والنازلات والطالعات” ويدكّها فوق بعضها البعض حتى ناخ البعير بحمله ولم يعد قادراً، لا على الوقوف ولا على السير ولا على احتمال كل ذلك الفائض المبارك!

كثرة “الإنجازات والانتصارات” الملزوقة لزقاً متيناً بعطايا “العز والكرامة والشموخ والعنفوان” كانت ولا تزال أكبر من قدرة الجسم اللبناني الميّاس وقدرة اللبنانيين، على التحمل ورفع الرأس! وكانت ولا تزال، وربما قد تبقى ردحاً آخر من الزمن المر “أثمن” من أن تُقدم إلى ناس لا يقدرون النعم! ولا يستحقون التكريم الفوّار الطافح عليهم وأمامهم! بل لا يستطيعون التمتع بفائض المكرمات الجليلات هذا… لبنان الصغير لا يحتمل العطايا الكبيرة! وشعبه العييش والمحب للسهر والفرفشة والكنفشة لا يحب ولا يهوى كثرة “الاهتمام” به! وكثرة “الرعاية” التي يحظى بها… وكثرة الترف الذي أنزلته “انتصارات” الممانعة فيه! مثلما أنه لا يستطيع حتى ولو تواضع ورضي، أن يصرف كل ذلك الفائض على غيره من الشعوب المساوية له في السعادة والأمجاد المجيدات!

لذلك ربما، تبدو محن الزمان الراهن غير عادية، ولم يسبق أن شوهدت وهي تمرّ وتكرج أمام اللبنانيين بهذه الرشاقة! بل الواقع، هي أنها محن مموهة بأستار وبراقع تجعلها أو يحاول أهلها وصنّاعها، جعلها على غير حقيقتها وسوادها وشحتارها… بحيث إن السعي المذهبي مثلاً يصير شيئاً وطنياً لوجه الله! والعمل الطائفي يصير شيئًا قريباً من ضرورات الدولة الفاضلة ومبادئ المدنية الحديثة! والتبعية لمشروع غير عربي، تخريبي مفضوح وموغل في التشظية والارتداد إلى الذات القومية بشعارات دينية، تصير شيئًا من أشياء الريادة في المقاومة! والتمسك المرضي والمريض بالأنا وتوابعها يصير ممارسة تحاكي أداء رجال الدولة الأقحاح والعظام! وأخذ الدستور وجعله ممسحة يصير سعياً إلى إقدار الدولة وتمكينها من سطوتها ودورها ووظيفتها! والقبض على السلطة القضائية ووضعها في الجيب أو على الرف أو في متناول اليد الخاصة، يصير تثبيتاً لمبدأ فصل السلطات! وتمكيناً للعدالة وتزفيتاً لطريقها! وتنعيماً لمسارها! وتسهيلاً لسعيها! واختزال المؤسسات والدوس على قوانين عملها وكيفيته، يصير استعادة لحقوق مسلوبة! والتطاول على صلاحيات الآخر، أو الآخرين، يصير فعلاً ميثاقياً أكيداً عنيداً شديداً… والفتك بالأعراف يصير تثبيتاً للحضور الإصلاحي المرتجى! والتوغل في القراءات الغلط لأحكام وضرورات العيش المشترك، يصير فعلاً وطنياً لا لبس فيه! والفشل تلو الفشل تلو الفشل في كل شأن تنكبه المدّعي المشعوذ، يصير إنجازات لا يراها إلا ذوو المكرمات الربانية وأصحاب الإلهامات الصافيات! والسفور في الفجور، يصير أداءً مدرسياً في أرقى معاهد الحكمة وتدبير الحكم شؤوناً وفصولاً وممارسة! والسعي إلى إلغاء الآخر، القريب أو البعيد، من الربع أو من الأغيار، من الملّة أو من غيرها، يصير أمراً عادياً و”حقّا” من حقوق العامل بالسياسة، ومبدأ ًمن مبادئ السير القويم إلى العلا! وصرف النفوذ ومراكمة القدرات والماليات بعد أزمان القحط والتواضع فيه، يصير شطارة تغيظ العدا… والعمل الكيدي، يصير مبدأ رئاسياً ناجزاً تاماً! وتكسير التراتبية الوظيفية بسعار وجموح يصير تثبيتاً لتفعيل الإدارة العامة! والسطو الحزبي الزبائني على أي موقع أو وظيفة رسمية، يصير فتحاً إصلاحياً عزّ نظيره في العالمين! والابتذال في الإعلام، يصير تنويراً للعامة! والتذاكي القزمي للتشبه بالكبار، يصير شيئاً من عدّة الطموح والوصول! والركاكة في الاستعارة ولبس ثياب التاريخ تصير دأباً مشكوراً يميّز الصهر عن سواه .

… وهكذا يخذلنا الزمان وأيامه، وتكتمل حلقات الإطباق على الناس والنفوس، وترتع المحن في فراش اللبنانيين وتسترخي وتستقر، وتهنأ بالمكان ولا تفرَ! وكيف لها أن تفعل ذلك طالما أن المعادلة الماسيّة تقول إن الرئيس قوي والدولة ضعيفة! وتياره فوق والناس تحت! وصهره في الصدارة والوطن إلى جهنم !

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً