هل أتى بشير الجميّل رئيساً على الدبابة الاسرائيلية أو هو مجرد كلام حاقد؟

جورج حايك
جورج حايك

ليست المرة الأولى التي تعلو فيها الأصوات داخل المجلس النيابي على خلفيّة إشكالات تتعلق بموضوع انتخاب بشير الجميّل رئيساً للجمهورية، ولا بد من أن نقارب الموضوع بالوقائع حتى لا يبقى مادة جدليّة وخصوصاً أننا عايشنا هذه المرحلة ونعرف تفاصيلها جيداً.

لا شك في أن مؤسس “القوات اللبنانية” بشير الجميّل تعاون مع الاسرائيليين بجلب السلاح في مرحلة مصيريّة دفاعاً عن الوجود المسيحي الذي كان في صراع مع الفلسطينيين والسوريين وحلفائهم اللبنانيين بدءاً من العام 1975 حتى العام 1982، لذلك اعتبرها بشير معركة مصيريّة بل معركة وجود وبقاء في لبنان الذي كان للموارنة اليد الطولى في تأسيسه في التاريخ الحديث.

وكان من البديهي أن يستفيد بشير من الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، إذ أدى إلى إبعاد أعدائه آنذاك أي الفصائل الفلسطينية والجيش السوري، لكن للحق والموضوعية لم يكن بشير مؤثراً في القرار الذي اتخذته اسرائيل بإجتياح لبنان.

كان بشير طامحاً الى رئاسة الجمهورية لكنه كان مقتنعاً بأنه لا يستطيع أن يحكم إذا بقي متقوقعاً في منطقته في ظلّ وجود الفصائل الفسلطينية وانتشار الجيش السوري اللذين كانا يصادران قرار المسلمين.

كان وزير الدفاع الاسرائيلي ارييل شارون ينتظر من بشير المساهمة في الغزو فور وصول جيش الدفاع الاسرائيلي إلى مشارف بيروت ومحاصرتها، وأن تقوم “القوات اللبنانية” بإقتحام بيروت الغربية وتنظيفها من الفلسطينيين، الأمر الذي كان مستحيلاً لدى بشير، لأن الوضع العسكري لـ “القوات” لم يكن يسمح لها بهذه المغامرة، إذ كانت صلبة في الدفاع عن مناطقها، لكنها غير مؤهلة اطلاقاً لتنفيذ عملية هجومية كبيرة. من جهة أخرى، كان بشير طامحاً إلى الرئاسة، كما ذكرنا، مع ما تقتضيه ظروفها من انفتاح على المسلمين وعدم التورّط في حروب تنفّرهم منه وخصوصاً أن الاسرائيليين كانوا سينسحبون لاحقاً، ولا بدّ للمسيحيين من العيش مع اخوانهم المسلمين. شارون لم يحصل على أيّ موافقة مسبقة أو وعود من بشير في هذا المضمار.

أراد شارون جعل بشير “ألعوبة” بين أيدي الاسرائيليين، الاّ أن الأخير كان يمارس لعبة ذكيّة جداً: يأخذ الكثير ولا يعطي إلاّ القليل!.

كثر حذّروا بشير من التورط في الحرب الاسرائيلية على الفلسطينيين لأنها ستحرق ورقته كمرشح لرئاسة الجمهورية، فتلقّى نصائح عربية ودولية استوعبها جيداً. وكان قد وضع مع فريق عمله خطة عرفت بـPLAN M تيّمناً بإسم “مايا”، طفلته التي قتلت في حادث تفجير سيارة مفخخة عام 1980. بقيت الخطة سرية جداً ولم تناقش حتى في اجتماعات فريق العمل، لكن سرعان ما حملها زاهي البستاني وجوزف أبو خليل إلى بيار الجميل الذي، ما إن اطلع على صفحتها الأولى حتى طلب من أبو خليل التوقف عن القراءة، اطمأن إلى أن “القوات اللبنانية” لن تشارك الجيش الاسرائيلي في هجماته العسكرية، ولن تقاتل الفلسطينيين والأحزاب اللبنانية الحليفة لهم، ولا حتى أيّ فريق لبناني مسلم.

طرح بشير أمام فريق عمله معادلة لم يجدها تنطوي على أي تواطؤ وهي: اذا كانت ثمة فائدة للبنان من الاجتياح الاسرائيلي، فهي أنها تؤدي إلى جلاء الجيوش الأجنبية كلّها عن أراضيه بما في ذلك الجيش الاسرائيلي نفسه. أراد تجنّب تكرار نتائج اجتياح عام 1978 عندما اكتفى بحزام أمني أدى إلى طرد المنظمات الفلسطينية من الجنوب المتاخم للحدود إلى شمال نهر الليطاني، ومن ثم أبقى على آلتها العسكرية في سائر المناطق اللبنانية. بدا المطلوب بالنسبة اليه، قطف ثمار اجتياح ليس في الامكان الحؤول دونه، علماً أن الاستياء الاسرائيلي من عدم تدخل “القوات اللبنانية” في المعارك بدا واضحاً في هذه المرحلة.

في موازاة ذلك، كان بشير قد أصبح أيضاً عضواً في “هيئة الانقاذ” التي أنشأها الرئيس الياس سركيس لمعاونته ومعاونة الحكومة على انقاذ بيروت المحاصرة، وهي “الهيئة” التي لم تنشأ الاّ للجمع بين بشير ووليد جنبلاط ونبيه بري. وعلى الرغم من الاجتياح، فكّ بشير الحصار العربي والاسلامي عنه بغية المساعدة في التوصل إلى فك الحصار عن الفلسطينيين. واتّسمت مواقفه بالانفتاح، فأكد أن “هذه المعركة ليست معركتي لأن ما تقوم به اسرائيل هو لخدمة أهدافها الخاصة… إن هدفي هو تحرير الوطن وتأسيس حكم جديد يتمتع به المسلمون والمسيحيون على أسس جديدة من المساواة في الحقوق والموجبات”.

على خط مواز، نشط جوني عبده وزاهي البستاني في تنسيق الخطوات الوقائية التي تؤدي إلى اكتمال النصاب، فجهّزا خرائط للمنطقة وعلّقاها على جدران المكتب، ليحددا بدقة أماكن سكن النواب والطرق التي يمكن أن يسلكوها للوصول إلى قصر منصور، بهدف حمايتها. وبذلك لم تتدخل اسرائيل بتاتاً، وحدد رئيس مجلس النواب كامل الأسعد موعد جلسة الانتخاب في 23 آب، في المدرسة الحربية في الفياضية. توافد النواب مسلمين ومسيحيين إلى الجلسة ولم يُسجّل أي تدخل اسرائيلي، شارك في الجلسة 18 نائباً مسلماً (12 شيعة، 4 سنة ودرزيان).

في الدورة الأولى، جرى احتساب الأوراق الموضوعة في الصندوق الشفّاف للتأكد من اكتمال النصاب. وفي الدورة الثانية، فاز بشير بـ 57 صوتاً ووجدت في الصندوق خمس أوراق بيض.

في البداية، رفض المواطنون المسلمون السنّة انتخاب بشير، وانطلق هؤلاء من أسباب عدة أبرزها أن القيادة الاسلامية التقليدية المتمثلة بالرئيس الراحل صائب سلام و”اللقاء الاسلامي” اعتبرت “أن بشير المتورّط مع الاسرائيليين سياسياً وعسكرياً يتحمّل مسؤولية تنفيذ عدد من المجازر في حق المسلمين اللبنانيين، وهو ليس مؤهلاً لقيادة لبنان الذي يعتبر الرئيس صائب سلام أنه لا يقوم الاّ بجناحيه المسلم والمسيحي، على قاعدة الاعتدال والتوازن، وأن انتخاب بشير جاء ليضرب هذه المعادلة في الصميم”. لكن الأمور تغيّرت جذرياً يوم السبت 11 أيلول 1982، اذ التقى بشير الرئيس سلام في قصر بعبدا.

في بداية اللقاء، طلب سلام من بشير أن يترأس طاولة الاجتماع فرفض الرئيس الشاب. فأصرّ قائلاً: “أنت الآن رئيس الجمهورية”. أجابه بشير: “أنا بشير”، فتأثر سلام بهذه المبادرة، وقال: “واحد يدعى بيار وآخر كميل وثالث ريمون. أنت وحدك تحمل اسماً عربياً!”. ثم بدأ النقاش وطال وتناول كل الموضوعات، وقد أصرّ الزعيم السني على أن يطرح كل المسائل. تكلّم طوال ساعتين وكان بشير يصغي. وبعد الغداء، جلسا إلى مائدة الرئيس سركيس واستؤنفت المناقشة، فعرض بشير وجهة نظره في النقاط الرئيسة التي تحدّث عنها محاوره.

وفي ما يخصّ رفض المسلمين عقد معاهدة صلح مع اسرائيل، كان بشير واضحاً وقاطعاً، عندما قال: “أنا أتعهد بانسحاب السوريين والفلسطينيين وسأطلب إلى رئيس الحكومة أن يتعهد بسحب الاسرائيليين. مناحيم بيغن وارييل شارون يطالبان في الوقت الحاضر بمعاهدة صلح ليسحبا قواتهما من لبنان. وعلى اللبنانيين، وخصوصاً السنّة، أن يقرروا الثمن الذي يجب دفعه لتحقيق هذا الانسحاب. لست رجل اسرائيل، ولا رجل أيّ دولة أخرى، لست سوى رجل لبنان. انني أريده حراً، سيّداً ومستقلاً، ضمن حدود الـ 10452 كيلومتراً مربعاً”.

كان بشير صريحاً مع صائب سلام في موضوع تأليف الحكومة الأولى، اذ اعتقد الجميع أنه سيشكل حكومة من وزراء غير معروفين لدى الطبقة السياسية، لكنه أكد له أن أول رئيس وزراء في عهده سيكون سليمان العلي الذي قطع له بشير وعداً بذلك.

بعد هذا الاجتماع عاد صائب سلام بجوّ مختلف، وأعلن أن “الرئيس المنتخب بشير الجميل يختلف عن رئيس الميليشيات العميلة لاسرائيل”. هكذا بدأت الأوضاع في الشارع السني تتغيّر ايجابياً.

“أبدع” الرئيس الجديد على مدى 22 يوماً، فكان ما يسمّى “جمهورية الـ22 يوماً”، جمهورية لبنانية بحتة، فجمع حوله شمل الشعب. جذب الجماهير الاسلامية. انقلب من قائد رهيب يخشى جانبه إلى رئيس موثوق به ومحبوب من الجميع. جرف كل أخصامه السنة والشيعة في تياره “الوطني” الذي لا يقاوم، وحصّن موقعه داخل المناطق المسيحية وبانت صورته الناصعة البياض والشفافّة حتى بات محطّ اعجاب معظم اللبنانيين.

لم يكن سوء التفاهم الكبير الذي ساد العلاقة بين بشير والقادة الاسرائيليين اثر انتخابه رئيساً للجمهورية سراً، بل تداول اللبنانيون “الأزمة” التي استجدت بينهم. ولم تمض أيام على عمليّة الانتخاب حتى جاء موعد الاستحقاق الذي تنتظره اسرائيل، وقد فعل بشير المستحيل كي يؤخّر الموعد أو يؤجّله. فحكومة مناحيم بيغن كانت تطلب ثمناً مقابل عمليتها العسكرية في لبنان وخلقها ظروفاً ساهمت في انتخاب بشير. والمكافأة التي انتظرتها كانت “معاهدة سلام” أو على الأقل هذا ما كان يطمح اليه الثلاثي بيغن – شارون – شامير في حكومة تل أبيب.

وما يؤكّد أن بشيراً لم يأتِ رئيساً بواسطة الدبابة الاسرائيلية، هو الاجتماع الشهير مع رئيس الحكومة الاسرائيلية مناحيم بيغن في نهاريا، فكان رد فعل بشير في الاجتماع أمام بيغن الغاضب الذي طالبه بإلحاح بأن يوقّع معاهدة سلام مع اسرائيل مشرّفاً جداً، لكن بشير أصرّ بدوره على أن يعود الى الشركاء في الوطن، إذ لم يرد الاستفراد بمثل هذا القرار المصيري والتاريخي. وبعد الكثير من المشادات بينه وبين بيغن، قال بشير كلمته التاريخيّة متوجهاً إليه: “مستر بيغن، اذا كنت تعتقد أننا قدّمنا كل هذه التضحيات والشهداء في مقاومة شريفة ضد الهيمنة الفلسطينية وضد الهيمنة السورية لنختار أخيراً من يهيمن على وطننا لبنان، أنتم أم السوريون، فأنت غلطان ومخطئ. واسمح لي بأن أنسحب فوراً من هذا اللقاء”.

لم يفكّر رئيس الوزراء الاسرائيلي سوى بمصلحته وكل ما يضمن استمراريته في الحكم، ولم يضع نفسه وإن للحظة مكان بشير الذي عانى كثيراً في سبيل تحسين “صورته” أمام شركاء الوطن المسلمين، فأراد منه بيغن رمي كل هذه الانجازات خلفه والانفراد بتوقيع معاهدة سلام مع اسرائيل من دون اعطائه الوقت الكافي لإنضاج الفكرة، أيّ أراد الاستيلاء على كل مكتسبات بشير دفعة واحدة. ضبط هذا الأخير أعصابه وحاول أن يبقى هادئاً على الرغم من اتهامات بيغن له بالمراوغة الكاذبة، الاّ أن تحوّل لهجة بيغن إلى التهديد والوعيد، أخرج بشير “من ثيابه”، وقرر انهاء المقابلة والانصراف واعادة النظر في العلاقة مع اسرائيل اذا بقي بيغن على إلحاحه.

أثبت بشير في نهاريا أنه رجل دولة من الطراز الأول، فقد خاض امتحاناً عسيراً في ضبط النفس والسيطرة على الأعصاب أمام ضغوط محاوره واستفزازاته القاسية والمتتالية.

ظنّ بيغن أن بشير الشاب (34 عاماً) سيرضخ له وسيخاف من التهويل والضغوط، الاّ أنه فوجئ عندما رأى أمامه رجلاً يعرف متى ينحني للعاصفة ومتى يجابهها. قال بشير كلمته ومشى من دون أن ينظر خلفه.

شارك المقال