هل يعيد “الأفندي” الاعتبار للزعامة “الكرامية” الوطنية؟

زياد سامي عيتاني

إستعادة فيصل كرامي مقعده النيابي، بقرار من المجلس الدستوري، وبمعزل عن المواقف التي أطلقت حياله، لا شكّ في أنّ من شأنها تغيير المعادلة السياسية على الساحة الطرابلسية والشمالية عموماً، لاسيما وأنه سليل العائلة “الكرامية” الضاربة جذورها في عمق أرض “الفيحاء”.

فعودة كرامي الحفيد إلى الندوة البرلمانية، يجب أن لا يتعامل معها على أنّها مجرد إنتصار إنتخابي شخصي، إنّما أن يحوّلها مناسبة لاعادة الاعتبار إلى التاريخ السياسي العريق لعائلته، التي أغنت الحياة السياسية اللبنانية، من خلال تقديم ثلاثة رؤساء للحكومة، من الجد المفتي عبد الحميد إلى الابن الأكبر رشيد إلى الابن الأصغر عمر.

وهذه المطالبة، هي مسؤولية وطنية قبل أن تكون عائلية ملقاة على عاتق فيصل كرامي، عبر إعادة إحياء التاريخ الوطني والعروبي المدوّنة صفحاته المجيدة من جده وعمه الشهيد ووالده في كلّ زاوية من زوايا قصر “القلة” في داخل طرابلس، خصوصاً بعدما حرّر نفسه خلال الفترة الماضية من الأسر الإصطفافي والخروج من شرنقته، وإنفتاحه السياسي محلياً وعربياً.

ولا شكّ في أنّ هذا التحوّل، الذي أتى بعد مراجعة نقدية ذاتية لأدائه وخياراته السياسية، سوف يتيح له المجال واسعاً في إعادة إحياء الزعامة “الكرامية” بنسخة متجدّدة ومحدّثة، على قاعدة الالتزام بمبادئها المتأصلة وطنيّاً وقوميّاً.

وهنا، فإنّ الأمانة تقتضي الاضاءة على مسيرة الرئيس الشهيد رشيد كرامي الذي أرسى مفاهيم الزعامة “الكرامية” التي بدأت مع والده أحد رجالات الاستقلال، والتي حمل لواءها فيما بعد المرحوم عمر.

فقد كان رشيد كرامي نموذجاً بارزاً ومضيئاً للسياسي المهذّب النشط، والوطني الميثاقي المنفتح والقادر على الإلتقاء والإرتقاء معاً، بحيث كان استيعابياً ومحاوراً محنّكاً وعنيداً.

واتصف بمهارته الكبيرة في ممارسة السياسة، على الرغم من تعقيداتها في لبنان، ومن أنّ علاقاته مع رؤساء الجمهورية غالباً ما كانت تتّسم بالتوتر، اذ كانوا يعيّنونه بسبب صلاته السياسية، وعرف بأنّه رجل لجميع الأزمات، مما كان يدفع رؤساء الجمهورية الى اللجوء إليه، في أوقات الفتنة الوطنية الكبرى أو الاضطرابات السياسية.

كما كان طموحاً متقداً بالعاطفة الصادقة، والولاء القومي، ومن حسن حظه أنّه عاصر الناصرية، ومن حسن حظ الناصرية أنّه وجد في عصرها، فلم يساوم بها ولا عليها، كما كان في مقدمة المدافعين عن القضية الفلسطينية، وعبّر عن قناعاته في ولائه العروبي بقوله: “إنّنا جزءٌ من هذه المنطقة العربية، والكلّ يعلم الظلم الذي يحلّ بنا نتيجة سياسة إسرائيل القائمة على العدوان وعلى التوسّع وعلى الاحتلال”.

وخير توصيف للدور الوطني للرشيد، ما كتبه عنه الباحث السياسي والمؤرخ الدكتور يحيى الكعكي: “رشيد عبد الحميد كرامي – الأفندي – سيبقى في (ذاكرة الوطن) زعيماً من (الآباء المؤسسين الأُوائل لدولة الاستقلال)، صحيح أنّه لم يكن في زمانهم، بل هو بقيمته الوطنية منهم، وعمل معهم منذ ١٩٥١ في الفترة الثانية من عهد أول رئيس جمهورية بشارة خليل الخوري – بعد وفاة زعيم طرابلس عبد الحميد كرامي في ١٩٥٠/١١/٢٣، تسلّم رشيد أفندي الراية في الدفاع عن (لبنان الميثاقية الوطنية) – القومي العربي – من أجل جميع اللبنانيين من دون تفرقة أو تميّيز، فانتخب عضواً في المجلس النيابي لأول مرة في دورة ١٩٥١ واستمر من دون انقطاع الى دورة ١٩٧٢ التي استمرت إلى ١٩٩٢”….

ويستطرد الدكتور الكعكي: “محطات سياسية مصيرية مرّ بها (لبنان الوطن) استطاع فيها الرشيد بفضل هدوئه وحسه الوطني العروبي، أن يجنّب البلاد الكثير من (الخضات) التي كان يمكن أن تؤدي إلى شفير الهاوية السياسية لولا حكمته التي كانت تجد الحلول والقواعد والأسس التي تحقّق (الإجماع الوطني) في أصعب الظروف وأدقها، وكان حليفه الأول في مسيرة (الإجماع الوطني) هذه المفتي الشهيد حسن خالد ما بين ١٩٦٧ و١٩٨٧”.

ويصف خطه العروبي: كان يمثّل الخط “الوطني الميثاقي اللاطائفي” والخط “القومي العربي” المتمثل بـ”الناصرية” منذ انطلاق الثورة الشعبية المصرية الكبرى في ١٩٥٢/٧/٢٣ بقيادة جمال عبدالناصر، وحتى وفاة الزعيم ناصر في ١٩٧٠/٩/٢٨، واستمر على “العهد القومي العربي الناصري” حتى استشهاده ١٩٨٧.

إن الاضاءة على المسيرة السياسية ببعديها الوطني والقومي للرشيد، تحتّم على النائب فيصل كرامي المحافظة على هذا الإرث العريق، والتمسّك به، وإعادة إحيائه، من خلال إعادة إنتاجه وتظهيره بصيغة متطوّرة، تحاكي التحولات والمتغيرات الجذرية التي شهدتها المنطقة، وضمناً لبنان، فضلاً عن المخاطر الوجودية الحقيقية التي تهدّد لبنان الهويّة والدولة والكيان.

لا شكّ في أنّ فيصل أفندي، وبعدما تراكمت تجربته، ونضوج خبرته على الصعيد السياسي، مؤهّل لتحمّل هذه المسؤولية الملقاة على عاتقه، عبر تكريس الحالة السياسية التي يمثّلها بإستقلالية كاملة، تعبّر عن وجدان البيئة التي يمثّلها، بعيداً عن إيلاء أيّ إعتبار لأيّ جهة أو محور، يشكلان استفزازاً لها، خصوصاً وأنّ ما يرتكز عليه من إرث زعاماتي كفيل بأن يوفر له كلّ مقومات استقلالية القرار والموقف، إضافة إلى حيثيّة سياسية وشعيبة تخوّله أن يكون لاعباً مشاركاً في المعادلة السياسية على الصعيد الوطني، معبّراً عن توجهاته وقناعاته المنسجمة مع من يمثل.

وما الرسائل الانفتاحية الأخيرة التي بعث بها كرامي طيلة الفترة الماضية في أكثر من إتجاه، إلا تأكيد على أنّه بات متميّزاً في خياراته السياسية عن أيّ إطار ضيق، وبالتالي بات يشكّل حالة مستقلة، سوف تتيح له هامشاً واسعاً من التحرّك والمرونة في نسج علاقاته، وإعلان مواقفه السياسية حيال مختلف القضايا المطروحة، لا سيما الجوهرية والمفصلية منها.

السؤال المحوري، ما هو الدور الذي يعدّه كرامي لنفسه في المرحلة المقبلة؟ وبالتالي هل سيعود عضواً في “اللقاء التشاوري”، أم أنّه سيعيد إحياء الزعامة “الكرامية”، متجاوزاً نيابته عن المقعد السّني في عاصمة الشمال، إلى آفاق السياسة الوطنية الشاملة؟

شارك المقال