هواء فيينا لا يلفح طهران… على خطى صدام !

أنطوني جعجع

منذ انطلاق المفاوضات غير المباشرة بين الأميركيين والإيرانيين في فيينا، والمراقبون يبحثون عبثاً في أسس “تفاؤل” تبديه طهران و”تحفّظ” تلتزمه واشنطن.

فلا إيران حصدت “مكسباً” من أي نوع يتجاوز واقع العودة إلى المفاوضات، ولا أميركا تنازلت عما يمكن أن يمنح الجمهورية الإسلامية أي مخرج يعتدّ به من الخناق الشامل، الذي تعانيه منذ استبدل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خيارات الحرب العسكرية بخيارات الحرب العقابية. وجلّ ما يدور في فيينا حتى الآن ليس إلا عملية استكشاف وشد حبال تجاه ما يمكن أن تفقده إيران في مقابل رفع العقوبات، وما يمكن أن تتساهل فيه أميركا في مقابل التخلي عن الطموحات النووية والصاروخية ولجم أطرافها ورجالها.

وفي قراءة متأنية للمسار التفاوضي، لا يمكن للتفاؤل الإيراني أن يستند إلى أي أساس صلب وجدي، وتحديداً إلى أي مرونة أميركية يعتدّ بها، في وقت تشكو الوكالة الدولية للطاقة الذرية من تجاوزات إيرانية خطيرة للاتفاق النووي، وفي وقت لا تزال صواريخ الحوثيين تتساقط على المملكة العربية السعودية، على الرغم مما تردد عن مفاوضات سعودية – إيرانية في بغداد، وتنهال صواريخ “الحشد الشعبي” على المنطقة الخضراء في بغداد وتتربص بالقواعد العسكرية الأميركية، وتمطر صواريخ “حماس” المدن والمستوطنات الإسرائيلية، وتستنفر صواريخ “حزب الله” منصاتها في انتظار ضوء أخضر من طهران…

في المقابل، ما كان المسؤولون العسكريون الأميركيون يسعون إلى إذن من الرئيس جو بايدن لمهاجمة الميليشيات العراقية الموالية لإيران، ولا كانوا حشدوا قوة بحرية وجوية هائلة قبالة السواحل الإيرانية، في عرض عسكري يحذر الإيرانيين من التمادي في تحدي إسرائيل انطلاقاً من غزة، وفي تحدي الخليج انطلاقاً من اليمن، وتحدي المصالح الأميركية والتمادي في تعزيز النفوذ الصيني في الشرق الأوسط، لو لمست الإدارة الأميركية أي تنازلات إيرانية يمكن البناء عليها تمهيداً لضخ الحياة في الاتفاق الواقف على قدم واحدة…

أكثر من ذلك، ليس من قبيل المصادفة أن يعلن قائد “الحرس الثوري” أن إدارة بايدن ليست أفضل من إدارة ترامب، في خطوة ناقضت أجواء الارتياح الذي يحاول الإيرانيون تسريبه من أروقة فيينا عشية الانتخابات الرئاسية التي يحاول فيها المتشددون خوضها من موقع “الإمام الحر” لا من موقع “الأمة الأسيرة”.

ويجمع الكثير من المراقبين والمحللين الإقليميين والدوليين على أن ما يجري في فيينا ليس إلا جولات كباش متبادل، يحاول فيها كل طرف امتحان صبر الآخر، على الرغم من اقتناعهم بأن الإيرانيين هم الطرف الأقل قدرة على المماطلة في مواجهة خصم يملك مفاتيح الحل والربط، ولا يعاني حصاراً خانقاً من الخارج وتململاً متفجراً من الداخل، وهو التململ الذي ينعكس على المزاج الشعبي الإيراني المتجه إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية الإيرانية، على الرغم من نداءات وفتاوى من الإمام علي خامنئي.

ويرى هؤلاء أن حرب غزة، على أهميتها، لم تكن أكثر من محاولة إيرانية لدفع المنطقة إلى حافة الهاوية، ودفع الأميركيين إلى الاختيار سريعاً بين الحرب الشاملة أو التسوية الشاملة، لافتين إلى أن السيد حسن نصرالله كان الأكثر وضوحاً في هذا المجال عندما خير العالم بين “القدس والحرب الإقليمية” على الرغم من اقتناعهم بأن الرجل تلطى خلف القدس كي يخفي شرط الاختيار بين رفع العقوبات والحرب الإقليمية.

ويعتبر هؤلاء أن طهران أخطأت عندما استفزت أميركا من خلال التعرض لإسرائيل هرباً من التنازلات الكبيرة، وخاضت المغامرة نفسها التي ارتكبها صدام حسين هرباً من الحملة العسكرية الأميركية بعد غزو الكويت، لافتين إلى أن الإيرانيين اعتقدوا أن التعرض للهيبة الإسرائيلية سيدفع أميركا إلى رفع إيديها لا إلى رفع سلاحها، وإلى أن تحقيق “نصر فارسي” آخر على الدولة العبرية، سيدفع العرب إلى التسليم بخيار المقاومة المسلحة والتراجع عن مسار التطبيع المتسارع، وإلى أن العالم الغربي القلق على أمن إسرائيل سيعطي الفلسطينيين ما يعزز نفوذ إيران لا ما يعزز فرص السلام من جهة والاعتدال العربي والإسلامي من جهة أخرى.

ولعل الخطأ الأكبر الذي قد يقع فيه الإيرانيون أو المنظمات الإسلامية الأصولية، هو التعامل مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان على أنه مقدمة لانسحابات أخرى ممكنة من العراق وسوريا، أو انعكاس لاستراتيجية تراجعية في حسابات بايدن، إذ أن ما جرى في هذه الدولة الآسيوية هو نتيجة لمهمة طويلة انتهت بالنسبة إلى البنتاغون، في حين أن ما يجري في دمشق وبغداد والممرات البحرية، هو دفع لمهمة لم تنته بعد، وقد لا تنتهي ما دام وقودها متوافراً، وهو الوقود الذي توفره إيران نفسها إلى جانب “داعش” و”النصرة” و”القاعدة” وسواها من المنظمات الأصولية.

وثمة خطأ آخر لا يقل خطراً وهو الاعتقاد أن سقوط بنيامين نتانياهو سيحَّول إسرائيل إلى نمر بلا أنياب، متجاهلين أو غافلين عن الحقيقة التي تفيد أن إسرائيل ، خارج الأمن، ليست إلا نمراً من ورق، وأن من يحكمها يجب أن يكون حارساً لليهود قبل أن يكون رئيساً لهم…

أضف إلى ذلك، أن غزة بعد الحرب هي غيرها قبل الحرب، إذ تحولت من مساحة جغرافية تتحكم بها إيران، إلى مساحة تتنافس عليها مصر والأردن والسلطة الفلسطينية والمجتمع الدولي – الخليجي الذي يخيرها بين إعادة الإعمار بعيداً من نفوذ “حماس” وبين حكم الصواريخ… ويذهب بعض المحللين بعيداً إلى حد الربط بين الدور الأمني الإيراني في ترسانة غزة، والحرائق التي اندلعت في أكبر خطوط الغاز في جنوب إيران وفي أكبر سفن الإمداد الإيرانية في مياه عمان، أي سفينة “خرج” التي كانت في مهمة تدريبية، غامزين من قناة الاستخبارات الإسرائيلية …

واكثر من ذلك، لم تمر الانتخابات الرئاسية السورية كما كان يشتهي بشار الأسد والقيادة الإيرانية، فلا الأول نجح في استقطاب “الرضى” الدولي والعربي، ولا نجحت الثانية في استعادة حليف قوي استعاد من أرضه أكثر مما استعاد من شعبه، ولا محوراً استعاد نفوذه المطلق من قبضة موسكو وأنقرة وواشنطن، واستقر محوراً كامل الأوصاف في الهلال الإيراني المنشود…

ولا يبدو أن بعض الانفتاح العربي على بشار الأسد قد لقي ترحيباً في الأوساط الأميركية التي أطلقت إشارات سلبية في هذا المجال، مذكرة المعنيين بأن “قانون قيصر” لا يزال سارياً، وأن الرئيس السوري لا يزال بالنسبة إلى واشنطن مجرم حرب وحليفاً قوياً للجمهورية الإسلامية، وأنها لا ترى في الأفق ما يستوجب فك عزلته وإعادته إلى الحظيرة العربية والدولية …

وتردد في أوساط دبلوماسية قريبة من واشنطن، أن الاستخبارات الأميركية لا تبرئ الجيش السوري من احتمال تزويد حركة، “حماس” صواريخ “كورنيت” المضادة للدروع، ومن تحويل مناطق واسعة في سوريا إلى مقرات محصنة لكل من “الحرس الثوري” وحزب الله ، وجسر عبور للصواريخ التي تصل من إيران إلى بيروت …

وفي الاختصار يختم هؤلاء المراقبون أن الحكام الإيرانيين الذين يذهبون إلى الانتخابات الرئاسية من دون أي مكاسب ترضي الداخل المتململ والمتحفز، جربوا أسلحتهم كلها من اليمن إلى غزة مروراً بالعراق وسوريا، ولم يبقَ أمامهم إلا الاختيار بين ثروة تنتظر رفع العقوبات وثورة تشعل المنطقة عن آخرها ولا توفر رأس أحر …

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً