غليون لـ”لبنان الكبير” (2/2): “الهلال الكئيب” سيكون موطن لجوء بسبب طهران

عالية منصور

الدكتور برهان غليون أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، وأستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، من مؤلفاته: “بيان من أجل الديمقراطية” و”عطب الذات”، في حديث شامل لـ”لبنان الكبير”، نشرنا أمس الحلقة الأولى منه، وتناول فيها أحوال سوريا والثورة والمعارضة، وهذه الحلقة الثانية ويتناول فيها رؤيته للوضع الإقليمي وأثر الاتفاق النووي الإيراني على أوضاع المنطقة والقضية السورية، وماذا يقول عن العلاقة مع لبنان وقضية اللاجئين.

• مع الحديث عن العودة إلى الاتفاق النووي، ألا تتخوف من أن تدفع القضية السورية ثمن العودة إلى هذا الاتفاق مجدداً؟

إذا أردت الصراحة أنا أتخوف من العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران مثلما أتخوف من عدم العودة إليه. مشكلتي ليست هنا. ما دمنا غائبين عن قضيتنا ولا لسان ولا صوت ولا دور ولا موقع لنا فنحن خاسرون في جميع الأحوال، والفرق هو في إعادة توزيع المكاسب للدول التي تتحكم بمصيرنا اليوم وتريد قتلنا وافتراسنا. وهذا ما ينبغي أن نركز عليه. ليست واشنطن هي التي ستحررنا من طهران واحتلالاتها. وإنما استعادتنا وعينا وقرارنا وقوتنا. من دون أن يعني ذلك عدم الاستمرار في الضغط على واشنطن وغيرها لدفعها إلى احترام مصالحنا. لكن حتى نضغط ونطالب باحترام مصالحنا الوطنية ينبغي أن نظهر أننا قوة وأننا أصحاب مصالح وأننا نضع القضية الوطنية قبل أي شيء آخر.

• يجري الحديث اليوم عن احتمال عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، ماذا وصلكم من معطيات عن التواصل الذي يجري بين الدول العربية والنظام؟

هناك بالفعل شكوك في أن بعض الدول تريد استعادة سوريا إلى الجامعة العربية. وهذا ليس بالأمر الجديد. فالجزائر ودولة عمان والإمارات ومصر لم تخف في السابق رغبتها في ذلك. ولا أستبعد أن تبدأ تحركات في اتجاه تواصل لدول أكثر وبدرجة أقوى مع النظام من دون أن تصل إلى مستوى الاعتراف أو التعاون نظراً للموقف الأميركي والأوروبي والعالمي عموماً، خاصة إذا استمر الكشف عن الجرائم الوحشية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية التي ارتكبها النظام. لكن في جميع الأحوال أن عودة سوريا الأسد للجامعة العربية بدل أن يعزز مكانة هذه المنظمة المشلولة أصلاً بسبب تنكرها لواجباتها الجماعية وعدم احترامها للحقوق الإنسانية الأساسية لشعوب أعضائها، سوف يفاقم من أزمتها ويزيد من تجريدها من الصدقية العربية والدولية ولن يخرج الأسد ونظامه وحلفاؤه من الهوة السحيقة التي سقطوا فيها.

• كيف ترى سبل حل إشكالية الدولة في سورية بين مثالية الشعارات أو الوطن الموهوم، وعدم المطابقة العيانية للكيان السوري الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى في سياق محدد لم يكن للسوريين فيه الدور الأكبر.

إشكالية الدولة السورية تكمن في ابتلاع سلطة الإمارة الأسدية للدولة وما يعنيه ذلك من تفريغ الدولة من السيادة والقانون والقيم السياسية والوظائف الاجتماعية وتحويلها إلى درع وبندقية تحمي السلطة الفردية والعائلية وتستخدم ضد الشعب الذي يفترض أنها قامت لخدمته. القضاء على الإمارة الشخصية والعائلية الإقطاعية والعبودية هو وحده الذي يعيد تظهير الدولة وفتح أبوابها على المجتمع وإعادة تكوين الشعب كوعي وكرابطة سياسية وكمصالح اجتماعية خاصة وعامة. ما عدا ذلك من اعتبارات لا أهمية كبيرة له ويأتي تحصيلاً حاصلاً. فالشعب سوف يستعيد روحه ويتعرف على تنوعه وتعدديته ويستوعبها كما كان يستوعبها خلال كل القرون السابقة، قبل الدولة الحديثة وفيها وبعدها. الناس هي التي تصنع حياتها لا السلطة السياسية. وظيفة السلطة أن تساعدها على تنسيق علاقات الأفراد والجماعات في ما بينهم وبث الانسجام والتناغم فيها. وهذا هو دور القانون المحمي بسلطة الدولة والذي يشكل جوهر عملها أيضاً. الدولة في علاقتها بالمجتمع هي القانون. والدولة في علاقتها بالخارج هي السيادة والقوة. وكل الدول مصطنعة وكل الأوطان تبنى في الخيال قبل أن تصبح واقعاً. ويكفي وضع العربة خلف الحصان وليس أمامه حتى يمكن تحريكها.

• تزعم كل الاتجاهات السياسية والفكرية في سوريا بأن هدفها النهائي هو بناء الدولة المدنية الديمقراطية، لكن تبرز لدينا إشكالية جديدة وهي الاستخدام الوظيفي لهذا المصطلح من دون تحديد مضمونه السياسي والفكري والحقوقي، هل ترى أن مجرد طرح فكرة الدولة الديمقراطية قادر على إعادة تشكيل الاجتماع السياسي السوري، في ظل كل هذا الخراب الذي تعيشه سوريا؟

لا الدولة ولا الاجتماع السياسي يصنعان على الورق. إنهما سيرورة حية ومتراكمة تحتمل التناقضات والتفاهمات والتضامنات والصراعات والتوافقات العديدة في الوقت نفسه. كم من “عقود اجتماعية” صيغت ودساتير ديمقراطية مفصلة حررت وصوت عليها بالإجماع ولم ينتج عنها لا دولة ولا أمة ولا حقوق ولا قوانين، وتم خرقها باستمرار من قبل سلطات غاشمة. وهذا هو وضع سوريا ذاتها. دستور المملكة السورية الفيصيلية الأولى في عشرينيات القرن الماضي كان أكثر تقدماً من كل ما شهدته سوريا من دساتير بعده. لكننا وصلنا بعد أقل من نصف قرن إلى أقسى الأنظمة توحشاً واحتكاراً للسلطة واستخداماً للعنف المادي المنظم ضد السوريين الأفراد.

لذلك لا أعتقد أن هناك أهمية كبيرة للتفاصيل. المهم الإرادة في بناء وطن. والمهم الإطار الدستوري الذي يضبط سلوك السلطة وينظم حكم القانون. والمهم احترام الحاكمين المنتخبين للدستور وللحقوق الأساسية للمواطنين. ما نريده وما يحتاج إليه أي مجتمع في مرحلة الانتقال أو للانتقال السياسي هو حكم ديمقراطي بمعنى الكلمة أي إطار من الحقوق والواجبات وتوزيع السلطات وتوازن المؤسسات كما هو معروف ومتفق عليه اليوم في العالم، إطار تتفاعل داخله القوى وتتنافس وتتنازع وتتوصل إلى تسويات ثابتة ومستندة إلى وقائع حية وتبدلات ثقافية وقيم مكتسبة وعواطف أيضاً نابعة من تجربة الحياة الديمقراطية وممارستها ذاتها. وهذا الإطار الدستوري الديمقراطي لسنا نحن من يخترعه الآن ولكنه أصبح ثقافة سياسية سائدة وواقعاً قائماً في أكثر الدول. فهو بناء تاريخي يتكون عبر الزمن والتفاعل بين القوى والأفراد وليس قيوداً موضوعة سلفاً أو تسويات جاهزة. وضع مثل هذه القيود والتشبث بالتفاصيل والكلمات والعبارات والتنازع عليها يعني في نظري وضع العربة أمام الحصان والمراوحة في المكان دون حركة. المهم وضع قواعد اللعب القانونية والسياسية والمجتمع يعيد إنتاج نفسه ديمقراطياً عبرها ويكتسب صفات وقيم الديمقراطية والتعايش والتنوع وإدارة الاختلاف واحترام التنوع إلخ. الديمقراطية ممارسة وليست نظرية. ولا دور للنظرية إلا في تثبيت قواعد العمل والتفاعل، والحياة الحقيقية هي التي تصوغ المضمون الخاص للديمقراطية وتوازناتها ومشاكلها وحلولها. والمجتمع كفيل بأن يجد المعادلات التي تسمح له ببناء هوية الجماعة الوطنية الواحدة أو وضع القيم والمعايير والمصالح المشتركة وتلك الخاصة بكل فرد أو جماعة أهلية.

• ماهي وسائل العبور إلى الدولة بعد كل هذا الحطام. من هي الفواعل الأساسية؟ وعلى أي أساس يمكن القول أننا ما زلنا شعباً واحداً وأن لديه القدرة على بناء دولته؟

نحن شعب واحد بمعنى أننا ورثة ثقافة وأرض ودولة هم ملكنا، وهم إرثنا المشترك كسوريين وما يوحد مصيرنا. اغتصاب هذا الإرث من قبل عائلة أو أوليغارشية أو طبقة أو نخبة منفصلة عن المجتمع وهمومه، واستخدامه لصالحها أبقانا من دون إرث مشترك، ودفعنا إلى النبش، كل في إرثه الماضي أو الديني أو العشائري أو الإثني، عن رصيد يمكن من خلاله أن يعطي لنفسه هوية وقيمة ومعنى ما دامت الدولة والشراكة في الأرض والثقافة الواحدة تحولت إلى رصيد سلبي، أي دين علينا وأدوات لسلبنا حقوقنا. وحدها استعادتنا لهذا الإرث المشترك يعيد لنا مباشرة هويتنا المشتركة، أي يحولنا أيضاً من أتباع وشبيحة وهتيفة وعبدة عجل إلى مواطنين لهم قيم إنسانية مدنية جامعة وأرض مشتركة ملكهم، يقفون عليها، ودولة تسمع لهم وتعبر عن مصالحهم وتديرها لتحسين شروط حياتهم المادية والمعنوية. السوريون فاقدو الثقة بهويتهم الوطنية لأنهم فقدوا شروط وجودها والروح المحركة لها والرصيد المشترك الذي يقرب بين أعضائها. فهم أيتام الوطنية، لا أب ولا أم ترعى مصالحهم ولكن زوج امراة يسوطهم العذاب ويتفنن في سقيهم كؤوس الإذلال والاستعباد. وكلهم يريدون أن يهربوا من بيت العبودية، ويبحثون لاهثين عن عائلة تتبناهم أو أم مستعارة بأي ثمن ومن أي طبقة أو نسب كان.

• كيف ترى ما حصل يوم الانتخابات في السفارة السورية في بيروت؟

بيروت لم تعد مستقلة عن دمشق والعكس، أعني أنها ساحة من ساحات الصراع المفتوح بين الشعب (السوري واللبناني والعراقي والإيراني) ونظام القهر والاغتصاب والتطويع والتركيع الذي يشكل الأسد كما يمثل “حزب الله” والحرس الثوري الإيراني أحد أذرعه الأخطبوطية. والملفت أن هذا النظام بالرغم من كل الجهود التي بذلها لتطويع اللاجئين السوريين لم يحصل إلا على نسبة لا تستحق الذكر من المصوتين للأسد.

• هل ترى حلاً قريباً لأزمة اللجوء؟ هل سيعود السوري من لبنان وغيره قريباً إلى سوريا؟

أخشى أننا أصبحنا جميعاً أو سنصبح لاجئين في سوريا ولبنان والعراق، أي في بلادنا وخارج بلادنا، إذا استمر نظام ولاية الفقيه في طهران هو المحرك الرئيسي للأحداث. وسوف يتحول الهلال الخصيب أو الكئيب بأكمله إلى مواطن لجوء بدل أن يكون وطن مواطنين متساوين وأحرار. فلا حقوق ولا حريات ولا وظائف ولا عمل ولا رعاية ولا حياة ولا مستقبل.

عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم لن تتحقق إلا عندما يتحول بلدهم من جديد إلى وطن يؤسس الحقوق ويحفظ الكرامة ويؤمن فرص العمل والاحترام ويكف عن أن يكون معسكر سخرة واعتقال ومسلخاً بشرياً.

• خلال فترة ترؤسك المجلس الوطني أصدر المجلس رسالة إلى الشعب اللبناني اعتبرت الوثيقة الأولى التي تتحدث عن كيف يرى السوريون العلاقة مع لبنان بعد رحيل نظام الأسد، هل لازالت برأيك سارية بعد كل ما حصل من تدخل “حزب الله” إلى المواقف ضد الثورة السورية، والانتهاكات ضد اللاجئين؟

ليس هناك أي سبب كي لا تكون العلاقات بين الشعوب، حتى من غير المنتمين لثقافة وتاريخ مشتركين، علاقات احترام متبادل وتعاون وتضامن. من يخلق التناحر بين الشعوب هي الحكومات التي تستخدم التوتر والتنازع والشحن الشوفيني ضد الآخر من أجل التغطية على فشلها وإخفاقها في القيام بواجباتها ومسؤولياتها تجاه المواطن، وتسعى لتفريغ شحنة غضبه عليها ضد شريك أو جار أو عدو مصطنع. وليس لدي أي شك في أنه متى ما زالت سحابة هذا التسلط والهيمنة السوداء سوف تعود علاقات الأخوة إلى سابق عهدها. لأن هذه هي سنّة التاريخ وسنّة الجيرة وسنّة المصلحة وسنّة التقدم والازدهار.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً