رئيس جمهورية “جيش وشعب ومقاومة”!

جورج حايك
جورج حايك

يصرّ مسؤولو “حزب الله” في كل مناسبة على تذكير اللبنانيين بأنهم يريدون رئيساً حريصاً على ثلاثية “جيش، شعب ومقاومة” ولا يطعن المقاومة في ظهرها. ولا يبدي “الحزب” أي اهتمام لمشاعر قسم كبير من اللبنانيين الذين تستفزهم هذه الثلاثية، ونسمع هذا الكلام من الأمين العام لـ”الحزب” حسن نصر الله ونائبه الشيخ نعيم قاسم ورئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد وغيرهم.

ولا شك في أن لبنان مقسوم بين مشروعين: الأول بزعامة “حزب الله” وحلفائه من قوى 8 آذار، والثاني يتضمن أحزاباً معارضة سيادية وشخصيات مستقلة وتغييرية، لا يجمع بينها سوى رغبة في قيام دولة فعلية ترتكز على المؤسسات والقانون.

من هنا يمكننا فهم الانقسام العمودي في الجلسات المتتالية لانتخاب رئيس الجمهورية، حتى باتت جلسات مملة، بسبب تكرار المشهد نفسه بتفاصيله التي تشمل الأوراق البيض التي يصوّت فيها “الحزب” وحلفاؤه، ثم انسحابهم قبل الانتقال إلى الدورة الثانية لافقاد الجلسة النصاب خوفاً من استدراجهم إلى انتخاب رئيس بالنصف زائداً واحداً.

واللافت أن هذا الفريق يشترط اجراء حوار قبل الانتخابات مما يفرّغ العملية الانتخابية من روح المنافسة الديموقراطية، لتصبح مجرد تعيين لرئيس بعدما اعتاد على ذلك منذ انتخاب الرؤساء اميل لحود، ميشال سليمان وميشال عون.

من المتوقع أن تستمر هذه المشهدية طويلاً، حتى يرضخ الفريق المعارض لمشيئة “حزب الله” ويوافق على مرشحه غير المعلن رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، وهو أكثر من يثق به “الحزب” كرئيس مؤتمن على “المقاومة” ومشروعها، إلا أنه يتفادى إعلان ذلك حرصاً على عدم إحداث شرخ أكبر بين حلفائه أي فرنجية ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، علماً أنه في كواليس هذا الفريق بات واضحاً أن “الحزب” يعطي الأولوية لفرنجية وسعى أكثر من مرة إلى تسوية بينه وبين باسيل، لكن الأخير يرفض معتبراً أنه الأكثر تمثيلاً مسيحياً.

لا بد من الاعتراف بأن فرنجية الأكثر وفاء لـ”الحزب” ومعادلته الثلاثية “جيش، شعب ومقاومة”، مع ذلك، يعمل على تسويقه كمرشّح توافقي، وهذا ما يدعو إلى الاستغراب، ويبدو غير مقنع لكل القوى السياسية المعارضة والجهات الدولية المعنية بالأزمة اللبنانية ولا سيما السعودية، على الرغم من مشاركة فرنجية في احتفالية السفير السعودي وليد بخاري بذكرى الطائف، وحتى ولو سعى البعض إلى إلباسه القناع التوافقي لا يوحي بالثقة دولياً، لارتباطه الكبير بمحور الممانعة، ومحاولاته الترويج بأنه سيكون منفتحاً على الجميع محلياً ودولياً، غير مقنعة، حتى ولو حصلت تسوية دولية.

ويحاول فرنجية طرح نفسه رئيساً مؤمناً باتفاق الطائف، لكن أي طائف يؤمن به فرنجية يا تُرى؟ يجب أن لا ننسى أنه كان حليفاً للاحتلال السوري الذي منع تطبيق اتفاق الطائف من خلال انقلابه على بنوده الأساسية وأبقى فصول الحرب مفتوحة، وهو اليوم حليف “حزب الله” الذي انقلب على هذا الاتفاق برفض تسليم سلاحه بذريعة المقاومة، وهو حليف فريق الممانعة الذي لا يريد إنهاء الحرب في لبنان من أجل أن يبقى ساحة عنف وقتال ونفوذ لهذا المحور من جهة، ولكون فريق الممانعة يتنفّس من الحروب، وقيام دولة فعلية في لبنان يقطع عنه الأوكسيجين من جهة أخرى.

في أي حال، تأتي مواقف مسؤولي “حزب الله” لتفضح المواصفات الحقيقية لفرنجية، إذ يقول النائب محمد رعد أن “هناك صفة يجب أن تكون في رئيس الجمهورية القادم ونحن معنيون بالتفكير بها ونضعها على الطاولة وهي رئيسُ جمهورية يُقِرّ ويحترِم ويعتَرف بدور المقاومة في حماية السيادة الوطنية”.

وسبب هذا الموقف أنّ “الحزب” عقدته الأساسية منذ العام 1989 تكمن في أنّ اتفاق الطائف لم يأتِ على ذكر المقاومة لا من قريب ولا من بعيد، وما ذُكر يتعلّق بالدولة وليس بوضعية منفصلة عنها، وهذا ما دفعه إلى ممارسة كل أنواع الضغوط من أجل تضمين دوره في البيانات الوزارية سعياً وبحثاً عن شرعية، وهو يدرك أنّ ما انتزعه في هذه البيانات هو نتيجة ميزان القوى على الأرض وحرص أخصامه على انتظام العمل المؤسساتي في ظلّ العجز عن نزعه بالقوة، ولكن هذا المكسب، بالنسبة إليه، يحتاج إلى رئيس بنوعية فرنجية يكون رئيساً للجمهورية منسجماً مع المقاومة، مشكلاً غطاء رسمياً لها كما كان الرئيس السابق ميشال عون.

والمستغرب أن رعد وكل مسؤولي “الحزب” يكررون دائماً أنهم ضد رئيس تحدٍ، ويعنون بذلك رئيساً يتحدى الممانعة ومشروعها، لكنهم لا يأبهون إذا كان رئيس تحدٍ لقوى المعارضة وأكثرية الشعب اللبناني التي طفح الكيل معها من تصرفات “الحزب”.

وخطورة وصول فرنجية إلى قصر بعبدا تكمن في تحوّل “حزب الله” في عهده إلى نسخة طبق الأصل عن الحرس الثوري في إيران والحشد الشعبي في العراق وحزب “البعث” في سوريا، وهو يريد تحديداً تعميم تجربة الحرس، أي أنّه يريد انتخاب رئيس الجمهورية الذي يقرّ بالحدّ الأدنى بدور المقاومة في حماية السيادة الوطنية، ويبادر بالحدّ الأقصى إلى المطالبة بتعديل الدستور من أجل تشريع دور المقاومة ومنحها دستوريّاً حصرية حماية السيادة الوطنية.

ولعل ما قاله الشيخ نعيم قاسم أكثر وضوحاً: “البلد متجه إلى انتخاب رئيس للجمهورية ولدينا الرغبة في التوافق مع قوى أخرى على رئيس وطني يؤمن بتكامل دور ثلاثيّة الجيش والشعب والمقاومة، وأن يكون ممتناً للمقاومة التي ساهمت في تحرير لبنان”. وأكد “أننا لو كنا في بلد يحترم نفسه، لكان المقاومون في ذاك البلد يُدعمون مالياً وسياسياً وإعلامياً من الدولة لأنهم ينوبون عن قوى الدولة وعن مشروع الدولة لحماية استقلالها وتحريرها”.

وهل هناك أي شخص عاقل يقبل برئيس جمهورية مثل فرنجية يمدد الأزمات التي يعيشها الشعب اللبناني بسبب مشروع “حزب الله”؟

إذا كان “الحزب” مصراً على فرنجية، فهذا يعني أنه مستمر في مغامرته الغوغائية المؤدية إلى طبقات جديدة من جهنم، وسيصطدم بـ”فيتو” دولي في مقدمه واشنطن وباريس والرياض التي تذكّر بكل بياناتها الفردية والمشتركة بأنّ عدم انتخاب رئيس للجمهورية سيادي وإصلاحي يعني إبقاء لبنان في أزمته، وأن لا خلاص للبنانيين سوى من خلال إعادة إنتاج سلطة تنفيذية بدءاً بانتخابات رئاسية تضع في سلم أولوياتها إعادة الاعتبار الى دور الدولة السيادي، وحُسن إدارة هذه الدولة من خلال استئصال كل مزاريب الفساد.

إما انتخاب رئيس الدولة الذي يلتزم تطبيق الدستور والقرارات الدولية ويضع لبنان على طريق الانقاذ والتعافي، وإما فصول الانهيار ستتواصل، وبالتالي المبادرة بيد اللبنانيين ومصيرهم بيدهم، والتغيير الذي حصل في الانتخابات النيابية يجب أن يستكمل في الانتخابات الرئاسية وصولاً إلى تكليف حكومة جديدة وتأليفها.

هذا هو الموقف الدولي وكل كلام عن تسويات قد تأتي برئيس توافقي في الشكل وممانع في المضمون، هو مجرد كلام للاستهلاك الاعلامي.

في المقابل، يطرح فرنجية نفسه كرئيس وسيط لطرح الاستراتيجية الدفاعية مع “حزب الله” ويتحدى أياً كان باستحالة نزع سلاح “الحزب” بالقوة. حتماً لا يمكن لأي رئيس أن يقوم بذلك، لكن المطلوب منه أن يتعامل مع كل حدث بمنطق الدولة كونها المرجعية الأولى والأخيرة، وليس مطلوباً منه نزع السلاح بالقوة، إنما رفض أي ممارسة على الأرض تتناقض مع المبدأ السيادي، ويكون الاجراء الأول الذي يجب أن يلجأ إلى تنفيذه إقفال المعابر غير الشرعية.

ثانياً، أن يرعى عملية إصلاحية يُشرف على تنفيذها من خلال إقرار رزمة قوانين في طليعتها قانون استقلالية القضاء، ويرفض أي مساومة أو تنازل أو مسايرة، ويُنهي مع الحكومة الجديدة سريعاً المأساة المسماة ملف الكهرباء.

ثالثاً، أن يرفض ويدين كل ما يمسّ علاقات لبنان الخارجية من خلال مواقف واضحة وصارمة تميِّز بين الدولة والدويلة، وتمنع الأخيرة من أن تعكِّر علاقات لبنان مع الدول الخليجية.

فأي رئيس للجمهورية يلتزم بهذه المبادئ الثلاثية سيلقى دعم قوى المعارضة والشعب اللبناني والدول الحريصة على مشروع الدولة في لبنان ويعيد الثقة الدولية والعربية بلبنان.

إنّ أسوأ ما يمكن أن يحصل هو وصول رئيس للجمهورية صديق للنظام السوري و”حزب الله”، ولم ينحدر وضع لبنان إلى ما دون الصفر سوى بعد أن أمسكت ثورة متخلّفة، ينتفض شعبها ضدّها في وطنها الأمّ، بمفاصل الحكم اللبناني، وإذا كان نزع السلاح متعذِّراً، فالنخبة التي لا تخضع سوى للدستور والقانون وضميرها قادرة على كسر السلاح وتحرير لبنان من قبضته ونقله من حالة التخلُّف التي انزلق إليها مع محور الممانعة المتخلِّف، ولن ترضى إلا برئيس جمهورية يعيد حالة التألُّق التي ارتبطت تاريخيّاً باسم لبنان.

شارك المقال