أنا الليرة أخاطبكم من جهنّم

يارا عرجة
يارا عرجة

أتذكُروني؟ أنا الليرة “لي كانت تحكي”. أسْكَتوني، كبَّلوني، قيَّدوني وأحرَقوني في نار جهنّم التي أنهَت لبنان الدولة وحلّته سياسياً، إدارياً وإقتصادياً، فأصبح دولة “شكلية”. لم ترحمني شياطين جهنّم ولا حرّاسها ولا مواطنوها الشاهدون يومياً على تدهور حالتي بسبب بطش السلطة وفسادها وسرقاتها. بُتُّ قُرباناً تُسفَك قيمتي على مَذْبح التسويات السياسية وفي السوق السوداء. أنا أشتعل ولم يحرّكوا ساكناً بعد.

لِمَن أشتكي؟ لمن نَسيَ أو َتناسى تفجير 4 آب واكتفى بالأغاني والشعارات والصور والشموع؟ من الذي أُنادي؟ من ترك الساحات ليرقص ويثمُل في بارات البترون وجبيل حيث تبلغ قيمة الحدّ الأدنى للطلب (Minimum Charge) في بعضها 100 ألف ليرة للشخص الواحد؟ من أُناجي؟ من اختار الاستجمام في الفنادق والمنتجعات هذا الصيف على الرغم من تراوح تسعيرتها بين 800 ألف و3 ملايين ليرة في الليلة الواحدة فقط؟ مع من أتحدّث؟ مع من سلاحه الأرغيلة وساحته المقهى وثورته افتراضية؟ على من أحُثّ بالمواطنة؟ على من ينتمي لزعيمه وحزبه وليس لوطنه؟

أنا الليرة التي تعبَت من “النَهْنَهة” و”الفخفخة”. أنا الليرة التي لم تعُد تطيقُ العيش في دولة المافيا. أنا الليرة التي لم تحظ يوماً بثقة شعبها، شعب أسوأ من قادته بكثير. أنا الليرة التي يريدون إسكاتها. ولن تسكُت.

فلنتخيّل معاً سيناريو الكارثة المُقبلة ونحن نشرب كأس الفرح على شواطئ البترون، لأنكم شعب اعتاد النسيان ومحاربة الأزمات بالدبكة والأغاني والبيرة وأكبر صحن تبولة

تخيّلوا أنفسكم بعد أيّام غارقين في الظلام بسبب إطفاء مَعْمَلي الزهراني وديرعمار. لن تتمكّن المعامل الجديدة من إنتاج أكثر من 300 ميغاوات، أي ما يوازي ساعة تغذية يومياً، ما يعني أنّها ستتوقف تدريجياً عن العمل فيما بعد لتجدوا أنفسكم على ضوء الشمعة تعُدّون النجوم، إذ سيبدأ تقنين المولّدات هذا الأسبوع: ساعتان خلال النهار وثلاث ساعات في الليل. قد تضطروا لاحقاً لتقليص “الأمبير” بسبب رفع الدعم عن المازوت، مع العلم أنّ تسعيرة العشرة أمبير اليوم تبلغ ما يقارب المليون ليرة. انقطاع الكهرباء يعني توقّف الانترنت ما يهدد قطاعي العمل والتعليم ويقطع التواصل. أنتم من كنتم تتباهون بعدد سياراتكم وموديلاتها، هل ستستقلّون الباص أو سيّارة الأُجرة للتنقّل؟ هل ستتمكّنون من دفع ثمن أجرتها يومياً؟ كيف سيتعلّم أبناؤكم إن ارتفعت الأقساط المدرسية ولا سيّما الجامعية، واحتُسب الدولار بالـ 3900 ليرة إن لم يتمّ تعديل مدخولكم الشهري ليتناسب مع الغلاء المعيشي؟ كيف ستقومون بإيصالهم إلى مدارسهم وجامعاتهم مع نقص الوقود؟ أمنكم الصحي أيضاً مهدّد: يتمّ اليوم تأجيل العمليات الصغيرة في المستشفيات لادّخار “البنج” واستعماله في العمليات الطارئة، ناهيكم عن النقص في الأدوية والمستلزمات الطبية. وإن لم يصيب البلاد خضّة أمنية في الأيّام المُقبلة، فستُرتكب جرائم القتل للفوز بعلبة حليب أو دواء أو كيلو لحمة بسبب ارتفاع الأسعار الجنوني وتفشي الفقر. والأخطر من ذلك هو استيقاظكم من غفلتكم بعد وقوع كلّ تلك الكوارث، فتعلنون الثورة حينها، ولكن في الظلام. ظلام الليل، والعتمة والديكتاتورية. قد تتعرّضون لأشدّ أنواع التعنيف من قبل السلطة في الشارع دون إمكانية توثيق جرائمها إعلامياً وتناقل الخبر. ستتباطأ عملية نشر المعلومات ومراكز التجمّع، ممّا سيعيق آلية التغيير، فتتقلّص فرص النجاة.

أنا الليرة “اللي كانت تحكي”، أُطلق الإنذار الأخير. شتاؤنا مُقبل ويبدو عاصفاً آتياً مُهرولاً إلينا في عزّ الصيف. فلتستفيقوا. قطع الطرقات لم يعُد مجدياً، ولا حتى الثرثرة على وسائل التواصل الاجتماعي. فلتكّن ردود فعلكم بحجم الأزمة وخطورتها. وحّدوا ساحاتكم، وحّدوا مطالبكم، وحّدوا صفوفكم، وحّدوا خارطة الطريق. أعلنوا العصيان المدني واضغطوا في الشارع ولا تخرجوا منه قبل تحقيق كلّ مطلب بمطلبه: أي لنفترض أنّ المطلب اليوم هو تأمين الكهرباء، فليتجمّع اللبنانيون في ساحة النور تزامناً مع جلّ الديب وساحة الشهداء وغيرهم، وليضغطوا على المسؤولين إلى حين تأمين هذا الحق، وعند الانتهاء من الهدف الأوّل يتمّ الانتقال إلى الهدف الثاني، وهكذا دواليك. الانتخابات مُقبلة، ربّما، ولكن توقعوا أن تسمعوا حُججاً للتمديد قريباً. لذا عليكم بالضغط والغضب. لا للمُساومات ولا للتنازلات ولا للخطوط الحمر. تتجهّز القوات اللبنانية للانتخابات المُقبلة وهي تُبشرنا أنها ستحظى بأكبر كتلة نيابية مسيحية في المجلس. تخيّلوا، لا يزال حزب القوات يحدّثنا بالمسيحي والجمهور الأقوى والأكبر، فيما الجوعان اليوم مسيحي وسني وشيعي ودرزي. اخجلوا. كفى مبارزة ومساومة على حساب حقوقنا. وتأكّدوا أنّ حال القوات هو نفسه حال باقي الأحزاب والتيارات اللبنانية، همّها المقعد وسرقة ما تبقى من موانئ وقطاعات في الدولة بثمن بخس. أموال زعمائكم في المصارف الأوروبية وفي الدولار، هم غير آبهين بمصيركم. لا بل عملوا على خلق أزمة ثقة بينكم وبين الدولة والعملة الوطنية منذ عقود، وقد نجحوا في ذلك. لذلك “خلّوا الليرة تحكي من جديد” بإنقاذها تنقذون بلدكم واقتصادكم ومستقبلكم، لا تسمحوا لهم ببناء نظام فاسد آخر على أنقاد فسادهم باستغلالهم لأيّ حركة تغيير تندلع أو إطلاقهم الوعود أو إسكاتكم ببعض المال والمواد الغذائية.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً