وطن الطوابير… أنا هنا

فؤاد حطيط
فؤاد حطيط

حين طُبعت ورقة المئة ألف ليرة وأمسكتها بيدي قلت لنفسي: دولة كبيرة نحن. لدينا ورقة بنكنوت واحدة تساوي نحو 70 دولاراً. ما زلت أذكر تلك الأيام البعيدة جداً، بالأمس القريب جدأ، حين كنا نقرّش فوراً دولاراتنا وندولر ليراتنا.

كانت “الدنيا ربيع والجو بديع وقفّلي على كل التنظير”. صارت إسطنبول أقرب من الضيعة. والحياة فرفشة ورخيصة وبمتناول الجيب أو القرض الحسن لكل شيء. بدك تسافر؟ خليها علينا بس انت قسّط على مهلك لتهلك. بدك تتزوج؟ ألف مبروك. هذا قرض نقدي وعيني وتفرح بالبنين ويربوا بعزك إذا ما قطع لك التقسيط ظهرك…

لم يأخذ الأمر طويلاً. كمن نام سكراً وصحا على وجع رأس، وحين هم بأخذ حبتي بانادول وقع أرضاً مصاباً بنزيف داخلي حاد.

ومن أيام اللولو إلى أيام الولولة… إلى فاقة بعد عز حتى صرنا نستحلي الرز… إلى شوفيني يا بديعة مع مئة دولار.

الدنيا دولاب طالع نازل عا دربه. ودارت الأيام حتى شفنا صروف الدّهر. فلنقرأ في المعجم عن تصاريف الدهر بالنوائب والمصائب، ولنردد مع أبي العتاهية: “إنك يا زمان لذو صروف… وما لي لا ألحُّ عليك إلا… وإنك يا زمان لذو انقلاب… بعثت الهمَّ لي من كل باب”.

الهم في كل بيت. الصرف استنزف المدّخرات. المصارف خنقت قروشنا البيضاء وجعلت كل أيامنا سوداء. ضربنا الغيب على الرأس، وصار الصرف والنحو تسليتنا الوحيدة للتنفيس عن الغضب ولعن الحظ.

وصرنا نصرف أيامنا الكئيبة في ملاحقة ليرتنا وهي تنهار وتنهار.

وصرنا مؤدبين عاقلين. ونسينا شبوات “مش عارف حالك مع مين عم تحكي”. ندخل “القطيع” بالطوابير. وبدلاً من التغني مع إيليا أبو ماضي بـ”وطن النجوم” صرنا نملّح وجعنا بـ”وطن الطوابير أنا هنا… حدّق أتذكر من أنا؟”.

من أنا؟ من نحن؟ كأننا وديعة ما عادت تُصرف في مصرف وعند صراف.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً