الفديرالية حلّ أو إنتحار؟ المواطنة المفقودة (2)

زياد سامي عيتاني

عودة فريق سياسي الى طرح “الفديرالية” كحلّ لأزمة النظام في لبنان، إيماناً منه بأنّ نظام الدولة المركزية فشل منذ نشأة لبنان الكبير، في بناء دولة عميقة توحّد اللبنانيين حولها. هذا الطرح، وإن كانت خلفيته طائفية، يقتضي التعاطي معه بموضوعية هادئة، بعيداً عن الانفعالات وردود الفعل المتسرّعة.

فالأمانة التاريخية تقتضي الاقرار بأنّ النظام اللبناني الطائفي بكلّ مراحله، حال دون نشوء “مواطنية لبنانية” من خارج القيود الطائفية، بحيث أنّ اللبناني بالفطرة منذ بداية وعيه السياسي يكون إنتماؤه الى طائفته وليس الى الوطن.

وما يعمّق الانتماء الطائفي تدريجياً للفرد اللبناني (وليس المواطن) على حساب المواطنة، التنشئة التي ترافقه من العائلة، الى المحيط، المدرسة، الجمعيات الرياضيّة والكشفيّة والترفيهيّة، المموّلة من متمولين يتبعون مرجعيات طوائفهم، حتى تتجذّر به العصبيّة الطائفيّة، فتسيطر على تفكيره وخياراته، مما يدفعه عندما يقرّر الاندماج في العمل السياسي إلى اختيار أحد الأحزاب التي تمثّل طائفته، تأثّراً بما تطرحه من شعارات شعبويّة تتعلّق بالدفاع عن حقوقها ومكتسباتها السلطويّة، التي تبقى حكراً على تلك الأحزاب وحاشيتها، من دون أن ينال المواطن العادي أيّ حصة منها.

وغياب المواطنة جعل الشعب اللبناني مفكّكاً ومشرذماً طائفيّاً، من دون أن يكون محصّناً بالحد الأدنى من التماسك والانتماء الوطني، مستعيضاً عن ذلك بالولاء للطائفة ومؤسساتها الدينيّة والسياسيّة الريعيّة والراعية، لأنّه من غير المسموح له أن يرتقي إلى مصاف المواطنة الصلبة والعميقة، حتى يبقى مجرد “أداة بشريّة” مطواعة بيد مرجعيته، ليؤدي الوظيفة المطلوب منه تأديتها، بما يخدم مصالحها وأنانياتها.

لذلك، غابت تاريخيّاً عن اللبنانيين صفة الشعب، واستُعيض عنها بالشعبوية والشعوبية، على الرغم من كلّ الشعارات والتوصيفات المنمّقة التي أطلقت عليه، تلطيفاً وتجميلاً، إذ بقيت جميعها لا تعدو كونها ستاراً لكلّ أشكال الممارسات والسلوكيات الأدائية الفردية، والجماعيّة العصبيّة الغرائزيّة، ما أتاح للمتربصين بلبنان شراً من قوى محليّة وخارجيّة أن يجدوا فيه أرضاً خصبة لتأجيج الصراعات الطائفيّة، وتحويلها إلى أزمات وحروب، تحضر غبّ الطلب، وفقاً لمقتضيات الظروف والتطورات والمتغيّرات، يوظفونها وفقها، إنطلاقاً من تعاطيهم مع لبنان كساحة مركزيّة للصراعات الإقليميّة والدوليّة، وتحديداً خلال مرحلة الحرب الباردة، قبل انهيار الاتحاد السوفياتي.

وهذا ما جعل لبنان طيلة مئويّته الأولى مدجّجاً بالحروب والأزمات المتوالية بخلفيات ومندرجات طائفيّة، يستفيد منها محتكرو القرار والتمثيل “الحصري” للطوائف للاستثمار السياسي والسلطوي والمصالحي، الأمر الذي جعل من هذا اللبنان بلداً (إذا صلُحت التسمية) منقسماً على ذاته إلى بيئات متصارعة ومتباعدة، تحكمها أنساق تاريخيّة ودينيّة وثقافيّة وجغرافيّة وإثنيّة ولغويّة وعرقيّة متناقضة، فاستحال من جرّاء ذلك الاجتماع البشري اللبناني الممتد عبر الزمن تاريخاً وحاضراً، والأرجح مستقبلاً، إلى أن يرتقي الى مجتمع متماسك تجمعه خاصيّة التقاسم المتبادل والتناغم للعلاقات، والقيم، والمصالح، والحاجيات، والكفاءات، والمواهب من شتى الأنواع والمجالات، ليشكّل أساساً لتميّز هذا المجتمع على مستوى هويّته الجامعة على باقي المجتمعات الأخرى.

إنّ غياب مفهوم المواطنة التي هي ركيزة الدولة المدنيّة (غير الدينيّة) أفقدت الفكرة التي أنشئ لها لبنان مفهومها وقيمتها، كنموذج للتعدديّة التي تعتبر الخطوة الأولى لقيامها ليس للتسامح مع الآخر وحسب، وإنّما لتقبّله تماماً، من خلال التواصل المتنامي معه، بما يحمل من أفكار ومعتقدات متمايزة، للوصول إلى قواسم مشتركة، تثبت الأرضية (الوطن) التي تجمع اللبنانيين تحت سلطة الدولة.

ومع غياب ثقافة التعايش التعدّدي، كان من الطبيعي أن تجنح كلّ طائفة نحو طرح مشروعها الخاص الذي يعبّر عن رؤيتها لنظام الدولة، الذي يشعرها بالاطمئنان والارتياح، ويحقّق لها ذاتيتها!.

وطرح “الفديرالية” كنظام سياسي في لبنان من أحد الأفرقاء، يندرج في هذا السياق، على الرغم من عدم وجود “كانتونات” طائفية خالصة في لبنان، بل هناك مناطق أكثريات معيّنة، لكنّها متلاصقة ومتداخلة بعضها ببعض، تداخلاً لا يمكن معه فصلها.

فهل “الفديرالية” قابلة للتنفيذ في بلد مثل لبنان، لا يشكّل إقليماً في دولة إتحادية “فديرالية”؟

(يتبع)

إقرأ أيضًا:-
– الفديرالية حل أو انتحار؟ الطائفية أطاحت بالتعدّديّة (1)

شارك المقال