اعتذار الحريري ينتج خريطة جديدة…ومبادرة فرنسية “متحوّرة”

وليد شقير
وليد شقير

ينتظر أن تتوالى المفاجآت الأسبوع المقبل مع انتقال لبنان إلى مرحلة جديدة على كل الأصعدة، الحياتية والاقتصادية والمالية والسياسية، بفعل سقوط المؤسسات وعجزها عن تأمين الحد الأدنى من الخدمات، ووصول مبادرة رئيس البرلمان نبيه بري إلى طريق مسدود، وتهيؤ الرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري لإعلان اعتذاره عن مواصلة المهمة.

التمهيدات لهذه المرحلة الجديدة، التي ستكون أكثر قساوة وإيلاماً على اللبنانيين، لجهة المزيد من التدهور في أوضاعهم المأسوية وحال الإذلال التي تفاقمت في تدبير يومياتهم، تبدأ باللقاءات التي يجريها الحريري من أجل إطلاع الجهات المعنية على موقفه من الاستمرار في مهمة تشكيل الحكومة، سواء كان ضمن تيار “المستقبل” أو مع رؤساء الحكومات السابقين، أو مع دار الفتوى، وتمر بتنظيم العلاقة بينه وبين الرئيس بري الذي ساند موقفه من عملية التأليف، انتهاء بالجهات الخارجية التي ساندت تكليفه وسعت إلى المساعدة على إنهاء الفراغ الحكومي، وفي طليعتها فرنسا، التي كان الحريري ترشح على أساس مبادرتها. فالرئيس الفرنسي نصح الحريري في الأيام الأخيرة التي كان يمهد فيها للاعتذار بعدم الإقدام على هذه الخطوة، وموقف خلية الأزمة المكلفة من قبله متابعة مبادرة بري لتذليل العقبات من أمام الحكومة كان التمسك بمواصلة دعم الرئيس المكلف، وبالمراهنة على نجاح مبادرة بري لعلها تحدث اختراقاً ما.

لكن الأمر لا يتوقف على ما سيقوم به الحريري، الذي لا بد أن يكون لديه تصور لما بعد الاعتذار ومفاعيله السياسية على صعيد موقعه السياسي، بل يتعلق أيضاً بالتوجهات الدولية في التعاطي مع مزيد من الانهيار في مقومات الدولة واختلال الانتظام الاجتماعي. وإذا كان الرئيس الفرنسي تعهد التشاور مع المجتمع الدولي لوضع آلية مالية من أجل تأمين الخدمات الأساسية في البلد المنهار، فإن هذا يحتاج وقتاً في ظل “الاضطراب السياسي” الذي سيعقب تخلي الحريري عن المهمة.

الأرجح أننا سنشهد مبادرة فرنسية “متحوّرة” تبقى فيها خريطة الطريق التي وضعها ماكرون معلقة، من دون أن يتم العودة عنها حفظاً لماء الوجه، لمصلحة التركيز على تقديم المساعدات للبنانيين عن طريق منظمات المجتمع المدني، وليس عبر مؤسسات الدولة التي يهيمن عليها فريق مؤلف من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وحليفه “حزب الله” (مع تفاوت درجة المسؤولية بينهما عن إفشال الخطة الفرنسية) أسقط مبادرة ماكرون، وحال دون إنقاذ البلد من الكارثة التي وقع فيها.

شعور من يواكبون الهم الفرنسي في التعاطي مع لبنان، أن فقدان باريس الأمل من السلطة الحاكمة الحالية، يقودها إلى قناعة تقول بأن لا مجال  للخروج من الوضع المأسوي اللبناني إلا بالانتخابات النيابية المقبلة. وإذا كان الجانب الفرنسي يعدّ آلية مالية دولية للمساعدات هي نوع من “الإدارة” الانتدابية لمالية البلد وللخدمات الأساسية في دولة فاشلة، فمن نافل القول أنه بموازاة تلك الإدارة الدولية وضع أسس لإدارة دولية لإعادة إنتاج السلطة عبر الانتخابات النيابية المنتظرة بعد 11 شهراً. وهذا يفترض بدء تحضير اللبنانيين لوجوب إجراء الانتخابات في موعدها من دون أي تأجيل، مع صدور قرار دولي بإرسال جيش من المراقبين لعملية الاقتراع التي ستجري منعاً للتزوير والتلاعب بمجرياتها من قبل السلطة الحاكمة، وسط مراهنة على أن يحدث الجمهور الغاضب من الطبقة السياسية تغييراً نسبياً في تركيبة البرلمان المقبل. في اختصار سيرتقي تدويل الأزمة اللبنانية في قابل الأيام درجة وراء أخرى.

من العوامل الأساسية التي حالت دون اعتذار الحريري في الأسابيع الماضية هو موقف جمهوره الذي رفض هذا الخيار. فقواعد “المستقبل” ومناصروه فاجأوا قياديي التيار بدعوة رئيسه إلى البقاء مكلفاً حتى الانتخابات النيابية المقبلة، حتى لو لم يؤلف الحكومة. وحجة بعض هذه القواعد أن بقاء البلد من دون حكومة أفضل من حكومة تنشأ بشروط جبران باسيل والفريق الرئاسي. كما أن رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة وقف مع خيار عدم الاعتذار والتمسك بالتكليف.

في المقابل كان من الطبيعي أن يعتبر الحريري أنه لا يمكنه أن يكون رئيساً مكلفاً ويعمل في الوقت نفسه من أجل إنجاح أكبر عدد من مرشحيه الحزبيين والحلفاء في الانتخابات النيابية. هذا أولاً.  أما ثانياً فإن بقاء زعيم “المستقبل” مكلفاً من دون تأليف الحكومة سينعكس سلباً على شعبيته، إذا بقي الفراغ حتى الانتخابات. بموازاة مرور الوقت على هذا الفراغ سينخفض قعر الحفرة التي سقط فيها البلد أكثر، وسيزداد المأزق المالي الاقتصادي وانعكاساته المعيشية حدة على اللبنانيين، الذين سيتجه جزء منهم نحو مساواته بالفريق الرئاسي في إعاقة الحلول وسيتهم بأنه قبل ببقاء البلد بلا حكومة، وتسبب مع غيره بالانهيار، ما سينعكس عليه سلباً في الانتخابات النيابية. بل إن مساواته بالفريق الرئاسي في التعطيل كانت بدأت تتسلل إلى بعض أعضاء خلية الأزمة الفرنسية، وإلى بعض المراجع الروحية المسيحية ومنها البطريركية المارونية. وهاتان حجتان دفعتا الرئيس المكلف إلى ترجيح كفة الاعتذار في الأيام الماضية.

يبقى اجتماع الحريري مع الرئيس بري هو العنصر الحاسم في قراره النهائي إعلان الاعتذار، في وقت يرى الفريق المحيط برئيس البرلمان أن ما قام به الأخير من جهود لتسهيل التأليف يجعل من الاعتذار قراراً لا يملكه الحريري لوحده. إلا أن السؤال الجوهري الذي بقي المطلعون على أدق تفاصيل ووقائع محاولة بري بالتنسيق مع “حزب الله” لثني باسيل عن تعطيل تأليف الحكومة يتعلق بمدى صوابية الاستمرار بالمراهنة على دور الحزب الضاغط على باسيل. فهؤلاء يؤكدون أن الجلستين اللتين عقدهما المعاون السياسي لبري، النائب علي حسن خليل، والمعاون السياسي للأمين العام للحزب الحاج حسين خليل ومسؤول وحدة الارتباط في الحزب الحاج وفيق صفا، تخللهما نقاش حاد امتد في كل مرة أكثر من ثلاث ساعات من دون نتيجة، خلص بعدها الخليلان إلى نتيجة بأن رئيس “التيار الحر” مصر على الحصول على الثلث المعطل في الحكومة، وعلى أنه يريد تجديد نمط التحكم السابق بالحكومة، من أجل ضمان موقع مقرر له في المعادلة السياسية المقبلة في البلد، وتأثيراً حاسماً في الانتخابات الرئاسية المقبلة سواء قبل ومع نهاية ولاية الرئيس عون في خريف 2022. ويشدد هؤلاء على أن لا وجود للرئيس عون في كل المفاوضات التي جرت، لأنه سلم كل أموره وعملية تأليف الحكومة لباسيل. بقيت وساطة الحزب جامدة عند إلحاح الحزب على أن يتنازل باسيل “بناء لطلب السيد حسن نصر الله” بالإفراج عن الحكومة، مقابل تشديد باسيل على أنه تعرض لعقوبات أميركية “بسبب وقوفي معكم، وأنتم تبادلوني الجميل بالوقوف مع سعد الحريري”. لم يكتف باسيل بحجة الحزب أنه من جاء بعمه رئيساً للجمهورية، وبأن مصلحة العهد أن ينهي آخر سنة من ولايته بحكومة تحاول انتشال البلد من أزمة سيكون مسؤولاً عن تفاقمها. فهل يقود إفشال مبادرة بري إلى إنهاء عقد الزواج بين الحزب و”التيار الحر”، يراهن الأخير من خلاله على استعادة ما خسره على الساحة المسيحية؟

قد تشهد المرحلة الجديدة إذا حصل الاعتذار، وقائع ومتغيرات في التحالفات وخلطاً دراماتيكياً للأوراق، على وقع انحدار لبنان نحو الدولة الفاشلة. والحزب يدرك أن الإتيان بأي رئيس للحكومة يخضع لشروط باسيل سيكون من النوع الذي لا يثق به المجتمع الدولي وبالتالي سيستحيل حصول حكومته على أي مساعدة لإنقاذ البلد من مأزقه.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً