الخطيئة مجدداً؟

علي نون
علي نون

تصعيد الجماعة الحوثية من اعتداءاتها على السعودية يبدو في هذه المرحلة، أكثر من السابق، ستاراً (لا يستر شيئاً) لقرار إيراني واضح وسافر في وضوحه.

الأسباب المحلية الخاصة بالنزاع اليمني قائمة منذ الانقلاب الذي نفذته الجماعة الحوثية على السلطة الشرعية في صنعاء، معتمدة على خط الدعم الايراني المفتوح، ولكن قرار الاعتداء المستمر على أهداف ومواقع مدنية داخل السعودية لا يتصل بالحوثي قدر اتصاله بالإيراني… تماماً مثلما كان الاستهداف الخطير لمنشآت أرامكو قراراً إيرانياً قاطعاً لخط أحمر سعودي وخليجي وعربي ودولي… الحوثي في ذلك ليس سوى أداة تنفيذية، بل ربما مجرد عنوان لفعل قام به أتباع إيران مباشرة، الذين وفدوا إلى ساحة الحرب من بعيد.

ويتبين اليوم أن القرار السعودي بدعم الشرعية ضد الانقلابيين الحوثيين منذ أيامه الأولى كان قراراً صحيحاً ولا بديل عنه، باعتبار أن الأمر لم يكن شيئاً بينياً سعودياً – يمنياً، بل شيئاً له صلة وثقى بإيران وبحثها عن منصة قريبة لاستهداف المملكة وأمنها واستقرارها… وهي تمكنت من ذلك اعتماداً على خرق النسيج اليمني من قطبة بني حوث، مثلما فعلت وتفعل في دول أخرى كالعراق ولبنان وسوريا بطبيعة الحال… تفعل ذلك تطبيقاً لاستراتيجية التوسع المذهبي الساتر لأهواء قومية أكيدة، ولأهداف توسعية تحاكي التاريخ الأمبراطوري البعيد، وتترجم طموحات جيو -استراتيجية موهومة أنعشها انتهاء الحرب الباردة وانهيار المعسكر السوفياتي بكل مقوماته .

أخذت الذات المنفوخة القيادة الإيرانية إلى ذرى مستحيلة، من ضمنها تصور لعب دور قطبي في وجه الأميركيين بعد انكفاء السوفيات وسقوطهم في الحرب الباردة. وراحت تخيلات العظمة في ذهن صانع القرار وصاحب الشأن في طهران إلى افتراض حيثية ثالثة تمثلها الجمهورية الإسلامية، باعتبارها بديلاً عن ثنائية الشرق والغرب! وكان لذلك الوهم المتضخم أن أفضى إلى نتائج مدمرة، أكان على المستوى الداخلي الإيراني أو على مستوى العالمين العربي والإسلامي… لم يتحقق أي شيء يعتّد به على المستويين المنكوبين بتلك الرؤى الفضفاضة والطافحة في الوهم… لم تصبح جمهورية الولي الفقيه دولة مقتدرة ولا مكتفية تنموياً ومالياً واقتصادياً، ولم تستطع إشباع الإيرانيين الذين خرجت الثورة لإنهاء استضعافهم وحملت شعارهم… ولا تمكنت من إعادة فلسطيني واحد إلى أرضه! ولا تحرير شبر واحد من تلك الأرض! ولا بناء منصة واحدة يمكن منها رؤية مشروع يهتم فعلياً وواقعياً بعموم المسلمين “المستضعفين” أينما كانوا وأياً كانت وتكون مذاهبهم! العكس هو الصحيح مثلما يرى القريب والبعيد والعدو والصديق والطيب والخبيث، حيث تفتك بالعرب وأمة الإسلام نكبة أفظع وأمرّ من تلك التي سببتها إسرائيل !

تصعّد القيادة الإيرانية من تحركاتها التدميرية على مختلف “جبهاتها” وتحديداً في اليمن ضد السعودية، وفي العراق ضد التسوية (القسرية) التي جاءت بمصطفى الكاظمي رئيسًا للوزراء أيام دونالد ترامب، وضد الوجود الأميركي المتواضع في الداخل العراقي، وعلى الخط المؤدي إلى سوريا والمراقب عن كثب طريق الهلال الطموح والمكسور! وفي لبنان من خلال الإمساك الفعلي بقرار تشكيل الحكومة الجديدة بالرغم من عنتريات وتنتيعات جبران باسيل وعمّه! وهذا كله مرتبط على ما هو معلوم بمسيرة التفاوض السارحة في فيينا، والتي تحاول طهران أن تبقيها أسيرة حساباتها الخاصة وخارج إمكانية المسّ بما هو أبعد من المشروع النووي… والواضح انه كلما تمنع المفاوض الأميركي عن “التسليم” بذلك، زادت إيران من ضجيجها الدموي و”خاطبت” الأميركي بدماء العرب، واللعب بأمن المنطقة التي تتحكم بمخزون الطاقة العالمي وأسواقه وأسعاره .

والواضح أكثر هو أن القيادة الايرانية تراهن على إدارة أوبامية أخرى في البيت الأبيض، خصوصاً وأن صناع أو بالاحرى منفذي سياساته الخرقاء والخبيثة الذين أمسكوا الملف الإيراني وأوصلوا إلى الاتفاق النووي في العام ٢٠١٥ لا يزالون في الصورة، وعادوا إلى الواجهة وإلى التفاوض في فيينا. وتراهن أكثر من ذلك على ما أظهرته إدارة جو بايدن منذ لحظاتها الأولى بل قبل وصولها إلى الإدارة، من تفاوت في وجهات نظرها مع الحلفاء والأصدقاء إزاء جملة قضايا مهمة… تحاول إيران الاستثمار في ذلك كله، مع أنها تعرف تماماً أنها غير قادرة على استرجاع لحظة أوباما، ولأسباب إيرانية بقدر الأسباب الاميركية، باعتبار أن العقوبات التي فرضها ترامب جعلتها في موقع المستجدي أكثر من كونها صاحبة قدرة على ابتزاز العالم بمشروع السلاح النووي العتيد.

تستجدي العودة إلى الاتفاق لرفع العقوبات عنها، وقد يحصل ذلك من دون حسم القضايا الأخرى المتصلة بالصواريخ الكورية المعدلة محلياً، ومن دون وضع ملف التدخلات الخارجية التخريبية على طاولة المراجعة والصدّ… قد يحصل ذلك بالتدريج على ما بدأ التسريب من فيينا، اي الرفع التدريجي للعقوبات وليس دفعة واحدة، واذا ما حصل ذلك فسيعني مجدداً، إن المنطقة مقبلة على أيام مالحة وكالحة أكثر من المعتاد… وأن إيران نجحت مجددًا في ابتزاز العالم بالتخريب والإرهاب وأن الإدارة الأميركية ارتكبت الخطيئة مجدداً، وبدلاً من تثبيت سلام ناقص تسببت بحروب بالجملة…والله أعلم !

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً