“تروما” المرفأ تدفع بالمسيحيين إلى الهجرة… ومبالغة بالأرقام

هيام طوق
هيام طوق

ليست الهجرة حدثاً طارئاً على حياة اللبنانيين إنما كانت ولا تزال حلماً يراود الكثيرين، للهروب من بلد لم يعرف طعم السكينة يوماً، خصوصاً مع بداية الحرب الأهلية سنة 1975، حيث غادر الوطن عدد كبير من الشباب والعائلات إلى أصقاع الأرض. لكن هذا الحلم تضاعف اليوم لدى شريحة أكبر من المواطنين الذين فقدوا الأمل ببناء مستقبل في وطنهم الأم، لأن كل ما يجري من حولهم، وعلى كل المستويات، لا يبشر بالخير، فهم الآن أكثر اقتناعاً من أي وقت مضى، أن العصر الذهبي الذي عاشه لبنان في الستينيات، أصبح ذكرى طواها النسيان.

اللبنانيون يسعون الحصول على تأشيرة دخول إلى أي بلد يحتويهم، ويحترم الإنسان، ويؤمن له حياة كريمة، عبثا حاولوا إيجادها في بلد لا تنتهي أزماته، وهو محاصر اليوم، بأسوأ أزمة اقتصادية، جعلت أكثر من خمسين في المئة من مواطنيه فقراء حسب البنك الدولي. كما أنهم سئموا من المناحرات والسجالات السياسية الحادة، اذ أن بعض المسؤولين يرون أن مصالحهم الخاصة ومراكزهم أهم بكثير من حياة الناس ومصيرهم. هذا إضافة إلى الانهيار المالي وغلاء المعيشة، وانتشار البطالة، واحتجاز أموال المودعين في المصارف، والأزمة الصحية والتفتيش بالسراج والفتيلة عن علبة دواء، وشبه انعدام في البنى التحتية والكهرباء والماء وأزمة نفايات، وغيرها الكثير من الأمور التي عمّقت مشاعر القلق والخوف على المستقبل.

ظلم السلطة

وبحسب مطلعين، فإن انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الماضي، وما نتج عنه من قتلى وجرحى إضافة إلى الخسائر المادية بمليارات الدولارات، وتدمير مساحات شاسعة من العاصمة، أعاد مشاعر الغضب والقلق والعجز وفقدان الأمل بقيامة الوطن خصوصاً عند المسيحيين الأكثر تضرراً من الانفجار، وإحساسهم بظلم كبير، حيث إن تعاطف السلطة معهم جاء خجولاً. فأصبحوا أكثر قناعة بأن الطبقة السياسية لا يهمها من الناس سوى أصواتهم الانتخابية، “وكنا ننساق وراءهم كالغنم، وهم لم يتكلفوا بتعزيتنا أو الاطمئنان علينا بعد أن فقدنا أحباءنا، وتهدمت بيوتنا ومصالحنا” كما تقول جانيت من منطقة المدور.

وتشير مصادر إلى ازدياد طلبات الهجرة بشكل كبير في الأشهر الماضية، منهم من فئة الشباب، لكن ما يدعو للقلق هو هجرة العائلات بكامل أفرادها مع بيع منازلها أو قسم كبير من ممتلكاتها. ولعل ما تعبر عنه عائلة حنا، خير دليل على معاناة كل عائلة لبنانية لديها أطفال لا تستطيع تأمين أدنى مقومات العيش لهم. الوالد الذي كان يعمل في شركة هندسة بات عاطلاً عن العمل بسبب إفلاس الشركة، ولديه 3 أطفال يريد إطعامهم وتعليمهم، فضاقت به الحياة ذرعا، فما كان أمامه الا تقديم طلب هجرة إلى كندا، وهو بانتظار الموافقة بفارغ الصبر “لأنو البلد صار لناس معينين. أنا مهندس وطردوني من عملي دون أي تعويض، حاولت كتيراً البحث عن شغل بس ما في نتيجة. الحياة ببلدنا صارت بهدلة ومذلة حتى عندما كنت أعمل ما كان المعاش يكفيني لمنتصف الشهر”، لكن أكثر ما يغص في قلب المهندس أن أمه التي ربته لوحدها برموش عينيها، لأنه يتيم الأب، مريضة ولا يستطيع تأمين الدواء لها، وسرعان ما تدمع عيناه، متسائلاً: “معقول ما أقدر أمّن الدوا لإمي لأنو أغلب الأحيان مقطوع، وهي بتموت من دونو. معقول أبرم نص صيدليات لبنان، وما بلاقي حليب لإبني اللي عمرو 6 أشهر. هيدا الشي وحدو بكفي بالنسبة إلي لفل بلا رجعة، وأنا اليوم عم بيع بيتي تنقدر نسافر كلنا، وعالقليلة ما بعود شوف أمي عم تموت بلا دوا وابني جوعان”.

جنى العمر ذهب بلمح البصر

أما دجو الذي كان يملك مطعماً صغيراً في منطقة برج حمود، ويحاول قدر المستطاع تأسيس عمل يؤمن له مستقبلاً لائقاً في وطنه، خصوصاً أنه الكبير بين أخواته، ويريد مساندة أهله في مصروف البيت. اليوم، يركض على أبواب السفارات للحصول على تأشيرة من أي دولة، لأن حسب رأيه “أفشل دولة في العالم أفضل من دولتنا”. يتحدث دجو، والغصة في صوته، لأنه صرف كل ما يملك من مال على الاستثمار في المطعم، وكل ذلك ذهب بلمح البصر، بانفجار المرفأ، حتى قبل أن يرد أي فلس من أمواله، لافتا إلى أنه سيهاجر “ورح آخود معي أهلي وأخواتي لأنو ما بدي التاريخ يعيد نفسو معنا. بيي كمان كان عندو محل أيام الحرب، وراح بسبب قذيفة، وتعب كتير حتى يقدر يعيشنا بعد ما خسر المحل. يعني بدل ما الدولة تحاول تساعد الشباب ليعملوا مستقبلهم، كل ما يمشوا فشخة لقدام بترجعن 10 لورا . خلص صار بدا فلة”.

وبين من قرر البقاء في الوطن مهما اشتدت الصعاب، ومن يحاول بكل الطرق، الرحيل بعد أن ضاقت به الحياة، هناك جهات روحية تعتبر أن الحديث عن هجرة مسيحية واسعة، مبالغ فيه، لأن اللبناني “طول عمرو بهاجر”، وجهات سياسية ترى أن المغادرة، تشكل قلقاً بالنسبة لهم، لكنها مبررة في ظل الأوضاع المأساوية التي نعيشها. ورغم الحديث الشائع حاليا بين الناس خصوصا الشباب منهم، بحزم أمرهم في الرحيل لأن بلدهم بنظرهم أصبح “مقبرة الأحلام”، تبقى الثابتة الوحيدة أن اللبناني مهما ابتعد عن وطنه، سيعود إليه لأن لبنان لا يشبه أي بلد من البلدان. وعندما تمر الغيمة السوداء، سيأتي أهل الأرض من آخر الدنيا، ليتساعدوا في انتشال وطنهم من أسفل طبقات جهنم والسير به نحو أعلى طبقات الجنة.

عقيص: الهجرة مبررة ومحقة حالياً

ويلفت عضو كتلة “الجمهورية القوية” النائب جورج عقيص في حديث لــ”لبنان الكبير”، إلى “أننا نسمع كثيراً عن موضوع الهجرة في الآونة الأخيرة، الذي يقلقني كما يقلق الزملاء في حزب القوات اللبنانية، لكن حالياً ليس لدي معطيات أو أرقام نستند إليها”، معتبراً أن “الهجرة مبررة لأن البلد لا يوجد فيه دواء ولا كهرباء ولا أمن ولا فرص عمل، وهذا يزيد من مسؤولية كل من يتعاطى في الشأن العام والسياسة، وتحديداً المعنيين بتأليف الحكومة، بضرورة تشكيلها لنضع البلد على السكة الصحيحة كي لا تتحول ظاهرة الهجرة من اغتراب إلى هجرة نهائية” .

ويشير إلى أن ” لبنان شهد خلال تاريخه ما يشبه هذه الموجة من الهجرة، لكنه استطاع إعادة نخب كبيرة إلى الوطن خاصة بعد الحرب. هذه المرة أيضاً يجب أن نكون بنفس الاتجاه”.

وعن ظاهرة بيع البيوت والأملاك في المناطق المتضررة من انفجار المرفأ، والهجرة، يوضح عقيص: “حاولنا بكل الوسائل التي كانت متاحة أمامنا لجم هذه الاندفاعة نحو المغادرة، ومنها قانون حماية المناطق المتضررة من انفجار مرفأ بيروت ودعم إعادة إعمارها، لمنع بيع الأراضي والعقارات المتضررة، وهناك إشارة حالياً على كل العقارات، لكنها ليست أبدية في السجل العقاري” .

ويرى أنه “في تلك المنطقة وغيرها، خلق الانفجار نوعاً من التروما عند الناس، وضاعف الرغبة في الرحيل لأنهم وصلوا إلى حد اليأس من التقصير والإهمال”، مشدداً على أن “الخلاص يكون بتغيير السلطة الحاكمة، والمسألة بيد الشعب الذي يجب أن يقول كلمته، ويتخلص من هذه الطبقة، والإتيان بأخرى مختلفة تماماً تكون تمثّل نبض الثورة ونبض الشباب اللبناني اذ لا يجوز إعادة نفس الطبقة السياسية التي جوّعت الناس، وكل ما عدا ذلك هو ترقيع بترقيع”.

ويقول: “إنني لا يمكن أن أطمئن الناس حالياً لأن كل مخاوفهم مبررة ومحقة، لكن أقول لهم إن لدينا نعمة النظام الديموقراطي الذي يتيح محاسبة السلطة السياسية كل أربع سنوات، فليحسنوا اختيار ممثليهم، وليمنعوا أي تمديد للمجلس النيابي الحالي أو تأجيل الانتخابات العامة، وحسن الاختيار في صناديق الاقتراع. هذا أملهم، وهو بيدهم”.

وعن إشاعة معلومات أن بعض المناطق المسيحية ستفرغ من أهلها بسبب الهجرة، يرى انه “كله كلام مبالغ فيه، سنحافظ على وجودنا في مناطقنا. الوضع الاقتصادي يدفع الناس إلى الهجرة بحثاً عن فرص عمل، لكن هذا البلد لم يتخلّ عنه أهله يوماً، فالعودة تكون سريعة عندما تتحسن الأحوال. وأنا مقتنع أن هذا هو المستقبل اللهم إذا استطاع الناس تغيير السلطة السياسية”.

ويشدد عقيص على “أننا سنخرج من جهنم، والمطلوب نسخة جديدة من ثورة 17 تشرين تكون حاسمة هذه المرة. نريدها ثورة سلمية في الشوارع وفي صناديق الاقتراع، ويتحاسب كل من أوصلنا إلى هذه الأوضاع إلى أي جهة سياسية انتموا. هذا البلد لن يكون يوماً في جهنم، ومن وصفه بجهنم سيتفاجأ عندما يرحل والطبقة السياسية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، بالسرعة القياسية في عودة البلد إلى الجنة”.

صياح: يريدون تهبيط عزائم الناس

ويلفت النائب البطريركي العام الأسبق المطران بولس صياح إلى انه “منذ القدم وحركة الهجرة قائمة. البعض يهاجر نهائياً والبعض الآخر يكون سفره مؤقت”، مشيراً إلى انه “ليس لدي معطيات أو إحصاءات حول الموضوع، لكن السفارات لا تعطي تأشيرات دخول بهذه السهولة خصوصاً في ظل تفشي كورونا”.

ويسأل: “من هي الجهة التي قامت بالإحصاءات؟ فليبرزوا معطياتهم العلمية. يريدون تهبيط عزائم الناس”، معتبراً أنه “لا يجوز تمرير أخبار تسبب هلعاً للمواطنين، وتزيد فوق الهموم هماً. البعض يتخذ من إشاعة الأخبار عملا له”، ومشدداً على أنه “علينا دائماً الارتكاز إلى الأرقام العلمية، ولا يجوز تناقل خبرية دون التأكد من مصداقيتها كما علينا الخروج من هذه الأجواء السلبية لأنه يكفينا ما لدينا من هموم”.

وعما اذا كان يسمع شكاوى ورغبة في الهجرة لدى الناس، يرد صياح: ” نسمع عن هجرة عائلات، لكن دائما كان هناك هجرة، ومن يريد المغادرة، لا يمكننا الوقوف في طريقه”، مناشداً “الإعلاميين والصحافيين إلى “التنبه لأي معلومة قبل نشرها أو التحدث عنها”.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً