ايران تتسلح بالرهائن… لكل رهينة ثمن !

أنطوني جعجع

هل هو خط النهاية في الصراع المزمن القائم بين ايران والمجتمعين الدولي والعربي، أي الخط الذي لم يعد يحتاج الى أكثر من شرارة ما ليتخذ منحى صدامياً مباشراً هذه المرة وليس بالواسطة كما جرت العادة في محطات سابقة عدة؟

وهل بدأت مرحلة الانتقال من حرب العقوبات الى حرب الضربات أو الاثنين معاً وفي وقت واحد أيضاً؟

هذه الأسئلة جاءت في وقت سجل المراقبون وقائع عدة ظهرت قبل دنو الطلاق بين طهران والغرب ومنها:

ان حادثة “العاقبية” في الجنوب شكلت اشارة أولى الى استنهاض “حرب رهائن” كتلك التي اتبعتها ايران في ثمانينيات القرن الماضي، متسائلين هل يمكن أن يخرج “حزب الله” سالماً أو بريئاً من دماء الجندي الايرلندي أو أن تنجح طهران في ابتزاز المجتمع الدولي أو ترويضه من خلال اصطياد مواطنيه الواحد بعد الآخر داخل الأراضي اللبنانية والايرانية؟

وهل يمكن أن يمر هذا “السلاح” كما مرّ في ثمانينيات القرن الماضي، أي من دون رد من الدول الغربية التي طاولتها يد “الحرس الثوري” في لبنان؟

الواضح حتى الساعة أن أحداً لا يميل الى تبرئة “حزب الله” وايران، ولا أحد يرغب في مسايرتهما أو في مسامحتهما وفي مقدمهم الحكومة الايرلندية التي وصلت في تحديها بعيداً الى حد القول ان قواتها في لبنان تعمل في “بيئة عدائية”.

ويجمع الكثير من المراقبين على أن تسليم أحد مطلقي النار على الدورية الايرلندية، لم يطوِ الملف في الشكل الذي طوي به ملف الطيار سامر حنا، مؤكدين أن قوات “اليونيفيل”، وخلفها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، لم تبلع ما يشبه أي نسخة عن “مصطفى المقدم” الذي قدمه “حزب الله”، “كبش فداء” في قضية المروحية اللبنانية التي أسقطت في منطقة سجد في العام ٢٠٠٨ قبل أن يطلق بعد ٩ أشهر ويُقتل في سوريا بعد بضع سنوات.

فما تريده “اليونيفيل” هو أكثر من مجرد مطلقي نار، سواء كانوا متورطين فعلاً أو أكباش فداء، فهي تريد أن تعرف المرجعية التي أعطت أوامر مباشرة بالقتل لاقتناعها بأن أمراً بهذه الخطورة لا يمكن أن يتم فردياً أو عشوائياً، رافضة أن تتحول الى ما يشبه قضية “الرهائن الغربيين” الذين وقعوا في قبضة “حزب الله” قبل أن يتحولوا اما الى ضحايا واما الى أوراق ضغط في يد الامام الخميني الغارق وقتذاك في حرب استنزافية دامية مع العراق المدعوم من العرب والغرب معاً.

وتشير أجواء المحققين الدوليين الى أن الحكومة الايرلندية لا تتوقع الكثير من تحقيقات الأجهزة الأمنية اللبنانية التي عجزت أو رفضت أو تجنبت أو حتى غطت عدداً لا بأس به من عمليات القتل والتفجير التي ألصقت سواء عن حق أو باطل بـ “حزب الله” وعرابه، وأنها تحرص على كشف الحقيقة عبر محققيها في الدرجة الأولى، على غرار ما فعلت المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

وانطلاقاً من هذا المشهد القاتم، لا بد من أسئلة جوهرية: هل هي مصادفة أن يسبق حادث “العاقبية” عودة ايران الى سلاح الرهائن في مواجهة ضغط الشارع الايراني المدعوم من الدول الغربية والولايات المتحدة علناً ومن الدول العربية سراً بعدما فشلت “حرب المشانق” في لجم الثورة الداخلية المضادة؟ وهل قررت طهران استنهاض فضيحة “ايران غيت” أو الدخول في مواجهة مع العالم تحت شعار مختلف هذه المرة أي “الرهائن في مواجهة العقوبات” بدل “الرهائن في مقابل السلاح”؟

وهل ان تخلف لبنان عن تسديد بدل عضويته في الأمم المتحدة مقدمة لنزع المظلة الدولية عن الكيان الللبناني والحؤول دون توسيع مهام “اليونيفيل”، وضرب مساعي التحييد والتدويل أم أنها مجرد مصادفة أو تقصير من وزارة المال التي يديرها أحد أركان الثنائي الشيعي؟

الواضح حتى الساعة أن “حزب الله” وايران ليسا في موقع مريح، على الرغم من التطمينات التي تصدر من هنا وهناك، فهما وضعا نفسيهما أمام خيارين لا ثالث لهما: اما التنازل أمام المعارضات الداخلية واما التصلب أمام أعدائهما، وهما في الحالتين لن يكونا في حال أفضل أو على الأقل في حال يعيدهما الى ما قبل سقوط الاتفاق النووي وتعليق المفاوضات مع الأميركيين.

وليس سراً أن ايران التي تحتجز مواطنين من أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا، قد فقدت أي وسيط غربي يمكن أن يفصل بينها وبين أي حرب مع أميركا أو اسرائيل، وفقدت بالتالي أي خط أحمر قد يمنع التعرض لها في صورة مباشرة وليس عبر حلفائها سواء في اليمن أو سوريا أو لبنان أو غزة.

وليس سراً أيضاً، أن ايران اختارت عملياً وعلناً الانضمام الى المحور الروسي – الصيني – الكوري الشمالي، مهددة أمن أوروبا وأميركا سواء من خلال السلاح الذي يؤجج الحرب في أوكرانيا لمصلحة روسيا أو من خلال تحريك خلاياها في بعض المناطق الساخنة، وبينها أخيراً الغليان المتجدد في غزة واليمن وقصف القاعدة الأميركية في منطقة التنف السورية.

ولا يبدو مستبعداً في هذا المجال أن يكون اللقاء الذي ضم زعماء مصر والأردن والامارات وقطر والبحرين وعُمان، جزءاً من حال الترصد والتعبئة التي تشهدها دول التطبيع مع اسرائيل، وأن تكون زيارة وزير الخارجية الايرانية حسين أمير عبداللهيان لكل من لبنان وسوريا تضمنت، حسب المراقبين ما يشبه “أمر عمليات” استعداداً لشيء ما، وهو ما تحدث عنه حسن نصر الله عندما قدم فرص الحرب على أي فرص أخرى .

ولم يكن الحال أقل تشنجاً في تل أبيب حيث دخلت البلاد في حال تأهب دائم واستفزازات متقطعة لا بل في حال استعداد لمهاجمة ايران مباشرة فور تلقيها ضوءاً أخضر أميركياً، وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي الى خلع ثوب الوسيط واللجوء الى سلاح العقوبات التي تشمل هذه المرة الامام خامنئي نفسه والرئيس ابراهيم رئيسي و٣٠ كياناً ايرانياً اضافة الى احتمال إدراج “الحرس الثوري” على لائحة الارهاب.

وأكثر من ذلك، لم تكن زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان لتل أبيب بعيدة من طبول الحرب أو على الأقل من الضربات النوعية التي يمكن أن تلجأ اليها اسرائيل المصممة على أمرين: عدم تحويل سوريا ولبنان الى قاعدة عسكرية ايرانية على حدودها، وعدم حصول ايران على سلاح نووي، يساعدها في ذلك الضغط الشعبي الذي تواجهه الحكومة اليمينية التي يمكن أن تهرب منه الى حرب في مكان ما، وأن القسم الأكبر من العالمين الغربي والعربي بات أقرب الى تغطية أي ضربة تتلقاها ايران منه الى رفضها أو التحفظ عليها.

وكشف مصدر ديبلوماسي غربي في هذا المجال أن أوروبا تعتبر نفسها الآن في حال حرب غير مباشرة مع ايران في أوروبا، وتعتبر أن الجمهورية الاسلامية نقلت حدودها من الشرق الأوسط الى القارة العجوز تماماً كما فعلت عندما نقلت حدودها من الخليج الى جوار اسرائيل.

وأضاف أن ايران أدخلت رأسها في فم الذئب ولجأت الى محور مفخخ يزداد تفافماً وقد يصل الى حدود حرب عالمية مباشرة لا توفر أحداً ولا يسلم منها أحد، مشيراً الى أن موقع طهران في العالم بات مرتبطاً اليوم بنتيجة الحرب في أوكرانيا سلباً أو ايجاباً.

وتابع: اذا كانت روسيا ممنوعة من الانتصار في أوكرانيا، فهذا يعني أيضاً أن الصين ممنوعة من الانتصار في تايوان، وأن ايران ممنوعة من الانتصار على اسرائيل أو الدول الخليجبة المجاورة، على الرغم من أن ذلك لن يكون نزهة وأن المعنيين بهذه الحرب لن يكونوا لقمة سائغة، مشيراً الى أن الوقت اليوم لم يعد وقت الديبلوماسيات والنفس الطويل، بل وقت الخيارات الصعبة التي تبيح أي سلاح كي يبقي العالم الحر حراً، ويمنع الكرملين من اعادة العالم الى عهد الحرب الباردة والأنظمة الأحادية أو القمعية أو الأصولية من التحول الى قنابل موقوتة هنا وهناك أو الى خلايا نائمة لا نعرف متى تصحو ومتى تغرق في سبات عميق.

من هنا يبدو لبنان عالقاً الآن بين أمرين: اما انفراجات سياسية اقليمية تباركها واشنطن وتسهل وصول رئيس الى قصر بعبدا، وهو أمر لا يزال بعيداً واما عض أصابع ينتظر من يصرخ أولاً وهو أمر لا يبدو قريباً.

وفي انتظار ذلك، لا يبدو موقع “حزب الله” كما كان قبل “العاقبية”، ولا يبدو موقع “اليونيفيل” كما كان قبل الانتقال من الرشق بالحجارة الى الرشق بالرصاص الحي، ولا يبدو موقف ايران والمجتمع الدولي كما كان قبل تحليق المسيرات الايرانية فوق أوكرانيا، وقبل تعليق المشانق في ساحات طهران. انه اللعب في الوقت الضائع بعيداً من “خطوط الرجعة”، وقريباً من اللحظة التي تتداخل فيها الجيوش بعضها ببعض وانتظار المنتصر بينها عندما تصمت المدافع وينكشح غبار الميدان.

شارك المقال