عدالة المرفأ تُنحَر بِسَيْفَيْ البيطار وعويدات

كمال دمج
كمال دمج

على وقع الانهيار المتسلسل لمؤسسات الدولة وسلطاتها الدستورية نتيجة حكم “الفراغ” الذي تفرضه نار الميليشيات وتعدد الاحتلالات، وُقِّع بالأمس، باسم الشعبوية حيناً وباسم الإنصياع أحياناً، حكم بإعدام العدالة في قضية تفجير مرفأ بيروت عبر فضائح قضائية لم تشهد لها العدلية مثيلاً من قبل، تعكس حجم انهيار الكيان القضائي وحجم ارتهانه بعيداً عن أي استقلالية واصلاح للذات بالذات، ما ينقل بيروت من كونها “أم الشرائع” إلى حكم الشوارع و”جاهلية” الرأي العام.

فهل من إطار قانوني لعودة المحقق العدلي طارق البيطار إلى فتح ملف القضية في ظل طلبات الرد ونقل الدعوى من أمام المحقق المقدمة من قبل أطراف في الدعوى؟ وكيف يفسَّر قرار إطلاق السراح الجماعي لموقوفي جريمة المرفأ الذي أصدره مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات؟

في القانون، لقد منح المشرِّع اللبناني صلاحيات واسعة للمحقق العدلي بحيث أنَّه سنداً لنص الفقرة الأولى من المادة ٣٦٢ من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني، يحق له أن يُصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق من دون طلب من النيابة العامة، وإنَّ قراراته في هذا الخصوص لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة.

إلاَّ أنَّه عملياً، وانطلاقاً من الحق الذي أعطاه القانون للمتقاضين بإمكانية الشك والارتياب بهيئة المحكمة أو القاضي، تقدم وعلى مدار سنة وأكثر، عدد من المدعى عليهم في القضية بطلبات رد ونقل للدعوى من أمام المحقق طارق البيطار لأسباب عدَّة جعلته مكبَّل اليدين عن النظر في ملف القضية منذ أكثر من ١٣ شهراً بحكم نص المادة ١٢٥ من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني التي توجِب على القاضي المطلوب رده منذ تبلُّغه طلب الرد أن يتوقف عن متابعة النظر في القضية إلى أن يفصل في الطلب، وهذا ما لم يحترمه القاضي البيطار عبر دراسة استند إليها عاد من خلالها الى فتح ملف القضية والمباشرة باتخاذ إجراءات فيه، دراسة جعل نفسه فيها، لا بل منصب المحقق العدلي، رب الجمهورية اللبنانية وأنَّ القاضي الذي يتولاه “بكون على راسه ريشة” ولا يمكن لأحد الارتياب فيه.

وبغض النظر عن عدم أحقية وعدم قانونية طلبات الرد التي يجب أن تكون مسندة إلى أسباب معددة حصراً في المادة ١٢٠ أ.م.م. لبناني، وبغض النظر عن التعسُّف المعتمد من قبل أطراف النزاع في استعمال هذا الحق بوجه القاضي، فإنَّ القاضي البيطار ومن خلال دراسته جعل نفسه معصوماً عن الرد وكبيراً على الارتياب بخلاف المبادئ العامة التي لا تكرّس أي قاضٍ نبياً وتمنح الحق بمخاصمته وفقاً للأصول مهما عَلَتْ درجته أو منصبه ومهما اختلفت المهام والقضايا، وهذا ما يجعل عودته إلى الملف قبل الإنتهاء من البت بجميع طلبات الرد المقدمة بحقه باطلة، والاجراءات التي اتخذها باطلة بحكم أن ما بُنِيَ على باطل هو باطل.

إنَّ القاضي طارق البيطار، وبحكم استنسابيته جعل نفسه طرفاً وجهة قابلة للإرتياب، حتَّى بعد عودته هذه، من خلال الاستدعاءات التي قام بها. فإنَّ إجتهاداً صحيحاً قديماً للمجلس العدلي، استند إليه البيطار في دراسته، يعتبر أنه في حال التلازم بين جرائم من إختصاص محكمة عادية ومحكمة إستثنائية أو بين جرائم من إختصاص محكمتين إستثنائيتين، فإنَّ أمر النظر في هذه الجرائم المتلازمة يعود للمجلس العدلي باعتباره المحكمة الإستثنائية الكبرى (المجلس العدلي، قرار إعدادي، تاريخ ٢١ آذار ١٩٦٩، دعوى الرئيس كميل شمعون)، وهذا ما يمنح البيطار فعلاً الحق في استدعاء أي كان من الشخصيات السياسية نواباً كانوا أم وزراء أم رؤساء وزراء أم مدراء عامين أم موظفين أم محامين أو حتَّى رؤساء جمهورية، بحيث ترفع يد المحاكم الاستثنائية المختصة بمحاكمتهم حكماً ويتولى ذلك المجلس العدلي لكونه المحكمة الإستثنائية العليا، وهذا ما قام به طارق البيطار لكن عبر استنسابية واضحة من خلال استدعاء الرئيس حسان دياب والمدير العام للأمن العام عباس ابراهيم وعدد من النواب وغيرهم من الشخصيات، مستثنياً إستدعاء رئيس الجمهورية السابق ميشال عون الذي يتحمّل المسؤولية الأولى في الإبقاء على النيترات في المرفأ من دون أن يحرِّك ساكناً حينها.

في حين أنَّ ما قام به مدّعي عام التمييز من إطلاق سراح جماعي للموقوفين في الملف ليس إلاَّ ردَّ فعل سلبي خارج صلاحياته على “هرطقة” البيطار القانونية بعد أن لم يكتفِ بما قام به بل ادعى على عويدات بغير الأصول الخاصة الواجبة الإتباع، وعلى شخصية من المفترض أنها عنصر أساس في تكوين القرار الظني الذي لا بد للمحقق العدلي من أن يصدره في نهاية المطاف، والذي يضعه البيطار نصب عينيه ويرفض التنحي أو الاستقالة قبل الوصول إليه، ما جعل المسار القضائي في هذه القضية أشبه بـ “مصارعة ثيران” تحطمت فيها العدالة وطمست تحت وُحول السياسة، وفتحت الباب واسعاً لتدويل القضية التي حينها ربما لن تنال حقيقتها المرجوَّة في ظل توازن سياسات إقليمية ودولية تفرض ذلك.

شارك المقال