الراقصة وجبران

الراجح
الراجح

ذكّرني حديث جبران باسيل وشعاره الجديد “لوحدنا” بناهد صبري الراقصة المصرية الشهيرة، وهي طبعاً من القرن الماضي، حين رقصت في الملهى اللّيلي في لندن وكان خالياً إلاّ من الخدم وصاحب الملهى وطاولة وحيدة جلس إليها شخص واحد أتى لإجراء حديث صحفي معها.

لكل شعب من الشعوب رمزه وشعاره. فإذا كان التّنين هو رمز الشعب الصيني، والصاروخ رمز الشعب الروسي، والأسد رمز الشعب البريطاني، والفتحة الوراثيّة لفستان بريجيت باردو رمز الشعب الفرنسي – وتشبه هذه الفتحة ولحد كبير السياسة الخارجية لرئيس فرنسا الحالي ايمانويل ماكرون – فإن الرقص الشرقي هو من أغلى ما في تراث العرب بعد سقوط الأندلس. والرقص الشرقي أنواع، فمنه الفني المعتمد على هز “الوسْط”، ومنه السياسي والمعدَّل لبنانيّاً والقائم على هز المجتمع وخلخلة تركيبته الهشّة.

هذا المقطع ليس خروجاً عن الموضوع، لكنه مقدّمة “متأخرة” لموضوعنا عن ناهد صبري وجبران باسيل؛ وإليكم التفاصيل وعليكم الرّبط…

أذاع مقدّم البرامج في الملهى اللّندني بصوته الجهوري، مكرّراً قاموس التقديم العربي الذي لا يخلو من عبارات التّفخيم والتّمجيد والإطراء السّمج، “بأن راقصة النّيل الأولى وسيدة الرقص الشرقي ناهد صبري ستطل على المسرح وعلى الجمهور”.

كل الكلام صحيح إلّا في ما خصّ الجمهور؛ فالصالة كانت خاوية والجمهور – كما الحال دائماً – “ضمير مستتر”، أي غير موجود إلا في الأخبار.

أشار صاحب الملهى بيده داعياً جميع الخدم الى التجمّع حول طاولته استعداداً للتصفيق (وإذا اقتضى الأمر للهتاف بحياة ناهد صبري). قد تقول في نفسك مستحيل أن ترقص ناهد؛ كيف ترقص بدون جمهور؟! (لوحدها) لوحدنا لا فرق…

يخيب ظنك وتطل ناهد صبري وترقص وتتراقص وتبتسم شاكرة الجمهور (غير الموجود)، وتستمر على هذه الحال ما يزيد عن الساعة فتشك في نفسك وتقنعها بأن الصالة تعج بالجمهور. وتبدأ بملاحظة احتشاد الناس حتى أنّك تسمع هتافاتهم بعد نهاية الوصلة. وكان فجر لندن أطل خجلاً بارداً كعادته. دار بينها وبين الصحفي المسكين هذا الحوار:

– يا ست ناهد، رقصتِ بحرارة غير معقولة، مع علمك بأنكِ كنتِ ترقصين من دون جمهور؟! (لوحدك)

– اسمع يا أستاذ… أنا راقصة محترفة؛ إذا توقفت عن الرقص أمرض وأشعر باليأس. فالرقص عندي متعة خاصة. لم يكن هناك جمهور صحيح (لوحدي)، ولكن أقنعت نفسي بأن الصالة تعج بالناس وصرت أتخيّل هتافهم وصراخهم، وأزيد من الرقص، فانفعلت. وللحقيقة، عندما نزلت عن المسرح لاحظت أن الصالة خالية، لكن الأمر لم يعد يعنيني لأن وصلتي قد انتهت. ويجب أن تعرف أنني أتقاضى مبلغاً ضخماً ثمناً لرقصي؛ وبمجرد وجود صاحب الملهى (كونه يدفع الأجر) فأنا أرقص. أتعرف لعبة الاعلام والجمهور؟

– لا يا ست.

– اسمعها. الناس – أي الجمهور – بالنسبة لي أصوات. أنا لا أعد الطاولات ولا أستطيع دراسة “النوعية”. ما يطربني هو الموسيقى، الموسيقى لحاشيتي كالحرس الخاص، أفهم عليهم ويفهمون عليّ، والباقي ديكور.

وبعد إجابتها عن رأيها براقصات زمانها ووصفها لهن وإعطائهن شهادات تشبه ما أعطاه جبران ببقية المرشحين غيره، أنهت ناهد صبري بأن يدها ممدودة لإنهاء الخلافات وإيجاد صيغة تعاون تكون بمثابة الأرضية المشتركة لجميع المحاور التاريخية والجغرافية. ولا مانع لديها من التسميات، مشروع “وفاق”، مشروع “ميثاق”، المهم هو الاتفاق، لأنها وأخواتها الراقصات أخوات سلاح يعانون من المشكلات نفسها الآتية طبعاً من “العزّال” أي من الخارج.

وواصلت مخاطبة، لا بل مبتهلة إلى القدير العزيز، أن يقصّر الأيادي عن أموال الفقراء والمحتاجين، داعية الى رفع الصوت، ليس ندباً أو بكاء، بل لنصرة الحق وقطع دابر الفساد، وليكن الشعار:

نموت ونحن نرقص أو يموت الجمهور من رقصنا… ونتابع المسيرة.

أما بعد. فهذا يا صديقي حديث للعامة. أما الخاصة، فقد تركنا لهم المعاني بين السطور بما في ذلك بطلة الحديث التي لم نحادثها.

ملاحظة: العنوان مستوحى من الفيلم المصري “الراقصة والطبال”.

شارك المقال