الحوار أمام المرآة!

صلاح تقي الدين

مشكورة هي الدول الخمس التي قررت الاجتماع للبحث في المسألة اللبنانية المعقدة سياسياً، اجتماعياً واقتصادياً، لكن المجتمعين إنما يمثلون وجهاً واحداً من الأزمة ويتفقون على كل شيء ويختلفون مع الفريق الآخر المؤثر وهو إيران وذراعها اللبنانية “حزب الله” ويكون اجتماعهم بالتالي كمن يحاور نفسه أمام المرآة.

وبعد أخذ ورد استمر أشهراً طويلة، قررت فرنسا والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر ومصر البحث في الخطوات الآيلة إلى تنفيس الاحتقان الذي يخنق لبنان منذ العام 2019 وازدادت حدته بعد نهاية العهد المشؤوم للرئيس ميشال عون فأصبح البلد من دون رئيس جديد للجمهورية بسبب الخلافات المزمنة بين القيادات المسيحية أولاً، وبين فريقين سياسيين داخليين لكل منهما نظرته المختلفة إلى مفهوم السيادة والحرية والاستقلال.

من حيث الشكل، فإن التصميم الفرنسي على عقد هذا الاجتماع نابع من حرص فرنسا على استقرار لبنان المبدئي وعدم انفلات الأمور فيه بشكل قد يؤثر على الأوضاع العامة في منطقة الشرق الأوسط التي تقف على حافة تطورات كبيرة نتيجة الانفتاح الخليجي على دولة الاحتلال الاسرائيلي وتوجهها نحو التطبيع من جهة، ونتيجة تدهور العلاقات الفرنسية – الايرانية الذي تسببت به مواقف بلاد فارس من دعم روسيا في حربها ضد أوكرانيا من جهة أخرى وفي هاتين النقطتين، تتناغم مواقف فرنسا مع موقف الولايات المتحدة.

أمّا في ما يتعلق بالدول العربية المشاركة في الاجتماع، فإن مواقف المملكة العربية السعودية التاريخية والواضحة تجاه لبنان، هي مساعدته ودعمه مالياً واقتصادياً، أما سياسياً فمن الواضح أنها اتخذت مواقف تنم عن ضيقها من تحوّل لبنان إلى منصة لمهاجمة دول الخليج وحكامه وانخراطه في محور الممانعة بقيادة إيران ما جعلها تنكفئ عن المساعدات المباشرة، واكتفت في المرحلة الأخيرة بمشاركة فرنسا في تأسيس صندوق دعم لأبناء البلد من دون المرور عبر قنوات الدولة المسلوبة القرار والارادة وفقاً لوجهة نظرها.

وقطر التي ساهمت في دعم لبنان لا تزال تحاول بشتى الوسائل الممكنة الوقوف إلى جانبه، وما المبادرة الأخيرة المتعلقة بدعم مؤسسة الجيش اللبناني لمساعدته على تجاوز محنة تدهور قيمة رواتب عناصره وضباطه إلا دليلاً على الأهمية التي تعلقها الادارة الخليجية على المؤسسة العسكرية للبقاء على تضامنها حفظاً لوحدة لبنان.

ومصر بما تمثل من ثقل عربي، هي الدولة التي كان ولا يزال لها الرأي والتأثير على مجريات السياسة الخارجية للبنان وتحاول دفعه مجدداً الى لعب الدور الذي لطالما عرف به منذ أن كان عضواً مؤسساً لجامعة الدول العربية، ودفعه إلى الابتعاد عن سياسة المحاور الاقليمية التي أضرت به وأبعدته عن محيطه وعمقه العربيين.

لكن التعويل الداخلي على أن يخرج الاجتماع الخماسي بقرار يتعلق باسم الرئيس العتيد للجمهورية اللبنانية، بعيد كل البعد عن الواقع، فلن يتناول وفقاً لمصادر متابعة اسم أي مرشح للرئاسة يحظى بدعم الدول المشاركة في الاجتماع بل حث القوى السياسية اللبنانية على انتخاب رئيس وتشكيل حكومة جديدة لكي يبنى على الشيء مقتضاه، وهذا هو جوهر موقف السعودية التي بات واضحاً أنها لن تعلن دعمها لأي اسم ولن تضع فيتوات على أي اسم آخر، بل ستتعامل مع نتيجة انتخابات الرئاسة وتشكيل الحكومة وبرنامجها الوزاري.

والفرنسيون كذلك، مدعومين من أميركا لن يذهبوا باتجاه دعم مرشح معين بل سيستمرون في حث الفرقاء السياسيين على التوافق لانتخاب رئيس، وهذا ما كانوا يتداولون به إعلامياً، وما ظهر من خلال اللقاءات التي أجراها الوفد النيابي الذي زار واشنطن في الأسبوع الماضي.

وعلى الرغم من أن ما يجمع هذه الدول ضمناً هو تأييدها لوصول قائد الجيش العماد جوزيف عون إلى بعبدا نتيجة تعاملها المباشر معه خلال الأزمة الأخيرة وسرورها من قدرته على حفظ تماسك المؤسسة العسكرية، واعتقادها بقدرته على أن يكون جسر وصل بين جميع الفرقاء السياسيين في لبنان، إلا أنها تدرك أن تركيبة المجلس النيابي الحالي غير قادرة على تشكيل أكثرية توصل عون إلى بعبدا ناهيك عما نمي إليها من تعقيدات دستورية تتعلق بكيفية تجاوز المادة 49 من الدستور التي تحظّر انتخاب قائد الجيش رئيساً قبل مضي سنتين على استقالته أو انتهاء خدمته.

لكن هذا الاجتماع بغياب إيران، المعروف أنها أكثر الدول المؤثرة على المسار السياسي في لبنان، لن يكون منتجاً بأي شكل من الأشكال، فالحوار يكون بين مختلفين وليس متفقين، وإيران عبر “حزب الله” معنية بهذا الحوار لقدرتها على تسهيل الانتخابات الرئاسية أو تعطيلها، فتعطيل الانتخابات الرئاسية الماضية سنتين وخمسة أشهر للاتيان بمرشح “حزب الله” ميشال عون خير دليل على ذلك، وهي قادرة على التعطيل مرة أخرى ومهما طالت المدة لايصال سليمان فرنجية.

وكانت الحركة اللافتة التي أجراها رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط باتجاه “حزب الله” والنائب جبران باسيل واستقباله النائب ميشال معوض ثم النائب سامي الجميل واجتماعه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري ثم مع السفير البابوي لدى لبنان المونسنيور باولو بورجيا تنحو باتجاه تأكيد وصول جلسات انتخاب الرئيس في مجلس النواب إلى درجة العقم مع استمرار فريق الممانعة في وضع الورقة البيضاء وتراجع الأصوات الداعمة للنائب معوض، وبالتالي التفتيش عن مخرج داخلي يكون عبر الحوار للتوافق على اسم “وسطي” عرضه ضمن لائحة تضم ثلاثة أسماء احداها للعماد عون، مشدداً على انفتاحة على مناقشة أسماء أخرى إن وردت.

إن الاجتماع الخماسي دليل على أن لبنان ليس متروكاً وحده، لكن على اللبنانيين أولاً مساعدة أنفسهم قبل طلب المساعدة من الآخرين، وهذا هو لسان حال الدول المشاركة في الاجتماع والذي لن يتمخض عنه على الأرجح سوى آلية لكيفية استمرار الصندوق الفرنسي السعودي المشترك في دعم اللبنانيين على تجاوز المحنة التي يمرون بها إلى أن يأتي الله أمراً مفعولاً، فيجتمع نواب الأمة وينتخبون الرئيس العتيد ثم ينتقلون إلى المشاورات الملزمة لتسمية رئيس للحكومة الذي هو بيت القصيد والخلاف حوله بمقدار أهمية الخلاف على اسم رئيس الجمهورية.

شارك المقال