في الدولة الفاشلة

علي نون
علي نون

نعم، نجح العهد العوني ودخل لبنان في منظومة الدول الفاشلة، بل أكثر من ذلك بقليل: صار معياراً ومثالاً للدول المقتدرة التي تبتلى بقيادة غير عادية ولا طبيعية فتسقط وتأخذ كل شيء عام معها إلى الأرض وتحت الأرض.

الأمثلة ليست كثيرة في عالم اليوم، لكنها ليست قليلة في المشرق العربي دون غربه ولا خليجه. وربما سرت العادة على إعطاء العراق – صدام حسين منصة الريادة في هذا البلاء، لكن ذلك كان صحيحاً ومعقولاً قبل أن يأتي من عندياتنا مَن استحق وبجدارة لا شك فيها، تلك الريادة الاستثنائية!

كنت في بغداد خلال حرب العام ٢٠٠٣ وقبل اندلاعها بفترة وجيزة وأمكن لي ولغيري معاينة تلك الأعجوبة التي حولها البعث الصدامي إلى خربة تامة. وقيل الكثير عن تلك المرحلة وسيبقى يقال حتى آخر الزمان، باعتبار أن بلداً تاماً، فيه ثروات نفطية لم يستثمر منها إلا الآبار التي حفرها الإنكليز في ثلاثينيات القرن الماضي! وهي تشكل ستة في المئة فقط من مخزون العراق الفعلي! وفيه الفرات ودجلة وحزام الخضرة والخيرات الزراعية من شماله إلى جنوبه، وفيه ثقل التاريخ منذ بدء الخليقة وبدء التدوين بالحجر وورق البردى والشواهد التي لا تفنى، من السومريين والبابليين وكل حضارة ممكنة إلى العباسيين وما تركوه من عمران حجري وفكري… وفيه التنوع البشري الذي لا يُضاهى والذي أنتج عقولاً لا تزال إلى اليوم حاضرة ناضرة… وغير ذلك الذي لا يحصى في عجالة، أدبا وشعراً ونثراً ووروداً وأشجار نخيل… بلد مثل هذا جاءت إليه بلايا الانفعالات واللعنات الانقلابية والبعثية وتمكنت منه حتى حولته إلى يباب أي تكاد.

أخذت مسيرة تدميره وقتها التام، قبل أن يتمكن صدام وربعه من إكمالها والقضاء على ما كان وسيكون، مثلما بينته سنوات ما بعد سقوط النظام في العام ٢٠٠٣، بحيث من الصعب اليوم وقبل اليوم، افتراض نتيجة غير التي يراها الجميع الآن لكل التراكمات التخريبية الممنهجة التي قادها البعث وصدام على مدى خمسة عقود، والتي يقال وسيبقى يقال حتى إشعار آخر وجيل آخر (ربما) أن آثارها من النوع البعيد المدى والراسخ وليس هيناً محوها أي الشروع في ذلك.

… وللقذافي وكتابه الأخضر سيرة في ليبيا تشبه سيرة العراق وصدام والبعث، وربما بنسب أقل من البلدين، تأتي سيرة آل الآسد وسوريا لتكمل العقد الثلاثي عن أمثلة لدول عزيزة أذلّها حكامها، وحولوا خيراتها إلى رماد وعمرانها إلى مخيمات لجوء ورغدها إلى شظف وقلة وقحة!

الدول المقتدرة الثلاث صارت فاشلة بالقوة والإكراه ولعنة الأقدار (إذا أمكن الاستعانة بالغيب!) لكن العراق بقي في صدارة الضنى والاستحالة: كيف للعنف والانفعال والعواطف المشحونة أن تتمكن من قهر شعوب مبدعة وذكية ونابضة وناجحة؟! وكيف يمكن الاستمرار في عالم اليوم بتقديس الخواء وتسييد الجهالة؟

سيرة لبنان تختلف في شكلها ومضمونها وفي تفاصيلها وعمومياتها، لكنها مشابهة في مآلاتها وخلاصاتها ونتائجها الأخيرة… ويمكن، مجدداً وتكراراً، الادعاء بكثير من الضنى والأسى، أن صاحب الشأن عندنا نجح في إتمام إنزال لبنان إلى سوية الدول الفاشلة وجعله في رأسها وقمتها! وتمكن من تثبيت درع الربط بين شؤونه الخاصة ومصائر اللبنانيين عموماً وإجمالاً! ثم تمكن من إعادة بعض الناس إلى زوايا، كان الظن السعيد، أن أحداً لا يستسيغ العودة إليها! ولا الإقامة عند حرابها المسنونة ولا تدويراتها المسمومة! باعتبار أن التجارب (الدموية أساساً) كافية لنبذها وعدم العودة اليها! وباعتبار أن تكرار الفشل لا يوصل إلى نجاح، وباعتبار أن العصر ومتطلباته أعقد بكثير من خبريات الصوان والجبال والشوارب وجرن الكبة!

لم يكن لبنان قبل العهد العوني دولة ناجحة… وهذا ليس كشفاً ساعدت فيه وكالة ناسا الفضائية! مثلما لم يكن بلداً سهلاً أي هيناً أي شبيهاً بجغرافيته الآسرة! وبالتأكيد لم تكن دولته ولا مرة مكتملة المواصفات منذ استقلاله، وإلا ما كانت رحلة حروبه لتنطلق منذ منتصف سبيعينيات القرن الماضي… لكن لم يكن لبنان ولا دولته النسبية في وارد الانصياع إلى منطق الانقلابات أي الاذعان لعصبة عائلية أي لأحادية تطغى عليها مثلبة الاستبداد أي لمشروع سيطرة حزبية، بل الذي حصل أن الجنرال يترك بذلته العسكرية عندما يأتي إلى المنصب السياسي، وصاحب المشروع الحزبي يتركه في مكانه الخاص عندما يأتي إلى مكان عام… وأن ذلك كان من علامات ذكاء عند أهل الملل اللبنانيين ومن الطاف تعدديتهم وتمكن الحرية من طبائعهم وكثرة الطامحين من بينهم… ومن انتباههم إلى أن ثروتهم ليست في باطن الأرض بل فوقها، وأي إقفال في تركيبته السياسية يعني اقفالاً في تركيبته المالية والاقتصادية… ذلك كان سابقاً واستمر برغم كل ما شهده لبنان، إلى أن حصلت المعجزة! وجاء صاحب الشأن الإصلاحي عندنا! وراح في إصلاحاته إلى حدود صدامية وأسدية وقذافية أكيدة! ولم يترك ولن يترك شيئًا يعتب عليه، قبل أن ينجح ويثبت ريادة لبنان في الفشل !

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً