“مِلء عين الزمن”… لبنان أولاً

كمال دمج
كمال دمج

بعد أن حَلَّ السكوت أفضل الكلام في ذكرى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في ١٤ شباط ٢٠٢٢ وسط حشود وضعت باكراً صوتها “وقفاً” في صندوق الأمين بجوار الشاهد بالحق والشهيد لأجله، لصالح حامل الأمانة الرئيس سعد الحريري كردَّ فعل تضامني على تعليقه وتيار “المستقبل” العمل السياسي وعدم خوض الانتخابات النيابية للأسباب الوطنية والسياسية الموجبة، وبعد أن خطَّ سعد الحريري معالم المرحلة بدموعه التي لطالما اعتبرها أفضل أن تكون عزاً له ودرعاً للبنانيين، على أن تكون الدماء لعنة على الوطن، وبعد أن تأكَّد المؤكَّد أنَّ لا مجال لفرض زعامة سنِّية خارج الإطار الوطني الجامع الذي ينطلق من الإرادة الشعبية المؤيدة لـ “الحريرية الوطنية”، تحلُّ اليوم الذكرى الثامنة عشرة لاغتيال رجل وُلِدَ مع ولادة لبنان ومات لأجله، فورَّث نهجاً فرض من خلاله مساراً خاضه سعد الحريري بكل تفاصيله منذ العام ٢٠٠٥ حتَّى اليوم تحت عنوان “لبنان أولاً”.

“أنا سعد ابن رفيق الحريري لن أسمح لنفسي الاستمرار في لعبة شد البلاد الى قعر جهنم. ولن أعطي نفسي الحق بأن أفرض على اللبنانيين البقاء في حلبة العراك الطائفي والسباق فوق ركام الدستور والقانون الى أبد الآبدين، أو حتى تستقيم العلاقات الايرانية – الأميركية على كلمة سواء”.

ضمن هذا الاطار، ألزم الرئيس سعد الحريري نفسه البقاء تحت سقف المصلحة الوطنية والتناغم مع الواقع السياسي للمعادلة التي تفرض لبنان شريكاً في الصراعات كافة من دون الاهتمام بمدى تأثير سلوكه على شعبيته وقبوله في الشارع السنّي لاعتباره أنَّ لا مجال لبناء دولة ومؤسسات في ظل شد الحبال الثأرية، خصوصاً وأنَّ جزءاً من اللبنانيين يعتبرون القضية مسألة استهداف طائفي ووجودي وعقائدي ويضعون أنفسهم على استعداد للمواجهة الحيَّة وتخريب البلد على رؤوس الجميع لصدِّ المحاسبة عنهم. فما كان منه، وفي كلِّ مناسبة، إلاَّ أن احتكم إلى مبدأ “ما حدا أكبر من بلده” وذلك للإبقاء على استمرارية الكيان اللبناني من غير التنازل عن السعي الدائم الى كشف حقيقة المرتكب لأبشع الجرائم محلياً وعربياً ودولياً تنفيذاً لمشروع استعماري بحت.

فبعد أن تحقق المطلب الأساس لـ “تسونامي” في إقرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بهدف إحقاق الحق وإرساء العدالة، وخُطَتْ معالمه، التي لم تخلُ من بصمة VITO الخصام الدولي، بدماء شهداء “ثورة الأرز”، وبعد أن عانى سعد الحريري الأمرَّيْن في ما تمَّ فرضه بقوَّة السلاح والسلبطة، من تعديل مقنَّع لدستور الطائف عبر اتفاق الدوحة، ومن فراغ رئاسي وهيمنة وإقفال متعمَّد للمجلس النيابي، وفي حين استطاع حلف “١٤ آذار” كسب الأكثرية الساحقة في الانتخابات النيابية عام ٢٠٠٩، اتخذ سعد الحريري القرار الأكثر مرارة في حياته بأن زار دمشق ووضع يده بيد قاتل أبيه، في موقف لم تكن أهدافه سوى استكمال مبادرة الصلح العربي التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز، وذلك احتكاماً من الرئيس سعد الحريري إلى الواقع الذي يفرض التضامن العربي مُرتَكَزاً لمصلحة إستراتيجية للبنان في اقتصاده وحيوية نشاطه. لم يتلقف أغلب الحلفاء هذا الأمر بما أصابهم من شعبوية وحصر الفكر بالحفاظ على الوجود داخل السلطة، حتَّى تبيَّن لهم فيما بعد، وخصوصاً اليوم، أنَّ لا قيمة للأكثرية وللسلطة في ظل هيمنة السلاح على الشرعية والقرار، في حين كان يؤكد الرئيس الحريري في خطابه في ١٤ شباط ٢٠١٠ على أحقِّية خطوته بقوله: “لبنان أكبر متضرر من الانخراط في لعبة المحاور… لقد خطونا خطوة تاريخية رأى البعض أن خسائرها الشخصية علينا كانت كبيرة. لكن المهم، أن نسأل، عن فوائد هذه الخطوة على الاستقرار في لبنان، وعلى مصير العلاقات العربية… فلبنان أولاً والاستقرار في مصلحة لبنان أولاً، والمصالحة العربية وتعطيل أسباب الفتنة الداخلية في مصلحة لبنان أولاً.”

وعندما تلقَّف الخصوم، لا بل الأعداء للبنان وللاستقرار فيه، تعاظُم التَقبُّل الشعبي لفكرة “لبنان أولاً” على امتداد الوطن، اتُخِذ القرار باغتيال سعد الحريري سياسياً عبر تطيير حكومته باستقالة ثلث الوزراء الذين يتبعون للثنائي الشيعي والتيار العوني، فدفع حينها مرة ثانية ضريبة حقنه الدماء في “٧ أيار”. في حين دفع لبنان الضريبة الأكبر في أمنه وإقتصاده وإستمرارية الحكم في مؤسساته، فبدأ النمو الاقتصادي بالتراجع مع تسلُّم حكومة “حزب الله” الحكم، وبالتزامن مع التدفق الهائل للاجئين السوريين جراء إجرام نظام الأسد ضدهم.

وقد إستمرَّ الحال على ما هو عليه، ومنه إلى الأسوأ في ظل إقصاء سعد الحريري عن لبنان بالترهيب والتهديد والسلاح، فتحوَّل الاغتيال السياسي إلى تهديد دائم بالاغتيال الجسدي عبر تصفية أقرب الرجال إليه وفي مناطق وأوقات حساسة، كأن يغتال الشهيد وسام الحسن بعد كشفه تجنيد النظام السوري للعميل ميشال سماحة، ويغتال الوزير محمد شطح في منطقة قريبة نسبياً من “بيت الوسط”، ما جعل منه أسيراً في الخارج ومستبعداً قسراً خصوصاً بين العامين ٢٠١٢ و ٢٠١٤ إلى حين نضوج معادلة تفرض الحلَّ في لبنان بعد فراغ رئاسي دام حوالي ثلاث سنوات، بحيث فُرِض مرشَّح “حزب الله” ميشال عون رئيساً للجمهورية بسطوة “بندقية المقاومة” وبضرورات حفظ لبنان من نار الحرب السورية وبنكايات بعص الأطراف المسيحية التي سعت من خلال قبول ترشيحها له إلى تقاسم السلطة وحفظ الوجود حصراً، ما دفع سعد الحريري الى الإرتضاء على مضض بما تقتضيه استمرارية الحكم وضرورات الاستقرار المرحلي ولو أنه كان قلقاً من أنَّ لا حكم ولا استقرار سيبقى في نهاية المطاف.

ومرَّة جديدة، وفي عزِّ بحبوحة “العهد القوي” طُعِنَ سعد الحريري من “الحلفاء الخصوم” أولاً عند تلاقي مصالحهم مع مصالح الخصوم التاريخيين عبر قانون الانتخابات الجديد الذي يكرِّس الخطاب الطائفي والمناطقي ويمنح المقعد النيابي لمن يستطيع شدّ العصبيات أكثر من غيره عبر التخويف والتهويل، وثانياً عند رفض الجميع لأن يكون رفيق حريري ثانياً عبر منع حكومته وتعطيلها، بأكثر من أسلوب، من إقرار مندرجات مؤتمر “سيدر” الذي أمَّن إستثمارات ومشاريع إنمائية أساسية للبنان بقيمة ١١ مليار دولار.

لم يكن سعد الحريري يعلم أنَّ العدَّة تعدُّ لغدر أكبر ومنظَّم هذه المرَّة عبر “نقطة ضعفه” الشارع، بحيث كان منهمكاً بالاعداد لخمس وعشرين إتفاقية إقتصادية مع دول الخليج، إضافة إلى انشغاله بتأمين البيئة اللازمة لتلقي حكم المحكمة الدولية في قضية الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه الذي كان منتظراً صدوره حينها، لكي لا يستخدم كوسيلة لفتنة داخلية بين اللبنانيين لأن رفيق الحريري لم يستشهد ليكون بلاءً على البلد، بل قدَّم حياته فداءً له.

لقد اندلع حراك ١٧ تشرين ٢٠١٩ فاكتفى بالاطاحة بسعد الحريري من رئاسة الحكومة بحيث قدَّم استقالته نتيجة لعدَّة عوامل داخلية منها أنه كان مضطراً الى تأمين العلاقة مع رئيس الظل، ليحمي الاستقرار مع الرئيس الأصيل، إضافة إلى العامل الرئيس الذي يمتلكه سعد نفسه بأن استقال من أجل لبنان أولاً تخوُّفاً من سقوط الدماء في الشارع نتيجة أفعال “القمصان السود” وتلبية لمطالب المحتجين الذين ما بادروا يوماً إلى إنصافه وإلى تلقي الحقيقة كما هي من دون تزوير أو شمولية وهراء وتكذيب، ومن غير أن ينشطوا في تقديم برنامج بديل عن برنامج “الحريرية الاقتصادية” ولا حتَّى استطاعوا تكوين حالة تخرق الواقع السياسي، إذ أنَّ “فرقة” النواب التغييريين التي أنتجتها انتخابات أيار ٢٠٢٢ لم تصمد أكثر من شهرين مع واقعها الذي يشبه “من كل وادي عصا”.

ولم يستطع الرئيس سعد الحريري إقصاء نفسه أكثر عن محاولة النهوض بلبنان من جديد بعد أن تسلَّمت حكومة حسان دياب مهمة الاطاحة بمداميك الكيان اللبناني إقتصادياً واجتماعياً وساهمت في تفجير مرفأ بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠، فقَبِلَ التكليف مرة جديدة لتشكيل حكومة مصغَّرة تتولى مخاطبة المجتمع الدولي لاعادة إعمار بيروت وضخ المساعدات لإنعاش الإقتصاد اللبناني تجنباً للإنهيار الكامل من أجل لبنان أولاً وأخيراً، في حين كان ميشال عون يسعى من اليوم الأوَّل للتكليف الى إرساء النظام الرئاسي الآحادي حتَّى وصل به الأمر الى مخاطبة الرئيس المكلَّف حينها عبر درّاج يحمل نموذج تشكيلة حكومية يرجى تعبئتها، الأمر الذي فرض اعتذار الحريري عن التشكيل بعد مناورات عدَّة لم يعد استكمالها يصبّ في صالح البلد.

أمَّا وقد وصل به الأمر في النهاية إلى تعليق العمل السياسي، فجاءت خطوته هذه في إطار “لبنان أولاً” بحيث رفض أن يكون شريكاً في صراعٍ قد يحمل اللبنانيين على التناحر من جديد. ثار سعد الحريري على ما يُقَدَّر للبنان وتحمَّل بنفسه عبء إحداث زلزال يعيد الوعي لمن فقدوه بأن فكِّروا بأسلوب جديد خالٍ من الدماء والصراع لكسر الاحتلال وإعادة إحياء أركان الدولة اللبنانية، وهذا أمر في النهاية لا بُدَّ له أن يكون، وإنَّ غداً لناظره قريب.

كلمات البحث
شارك المقال