احذروا الفيدرالية نحن في لبنان

مروان سلام
مروان سلام

بدأت تتكشف إلى العلن الحاجة إلى تظهير الفكرة التي تنادي بتطبيق النظام الفيدرالي في لبنان مع مبدأ الحياد، حيث تسوّق لها عدة مجموعات مثقفة من المجتمع المدني غالبيتها من الفئة العمرية الشبابية تجتمع بشكل دوري متسارع تحت رعاية كنسية وأممية ودولية.

توازياً مع هذا الأمر رأينا منذ مدة كيف أن الإعلام بدأ يروٌج لهذا المشروع ويلمعه وبخاصة بعد انفجار مرفأ بيروت المشؤوم، الذي أصاب بشكل كبير غالبية المناطق ذات الطابع السكاني المسيحي، حيث أفردت له قناة “الأم تي في” مساحة كبيرة في برامجها وآخرها في حلقة “صار الوقت” الذي يقدمه ويديره الإعلامي المخضرم مارسيل غانم.

هذا المشروع ولو كان تحت ستار الفيدرالية إلا أنه يخفي مشروعاً تقسيميًا مناطقياً طائفياً بالمعنى الواسع للكلمة، والبحث في أسباب زرعه بالأذ هان في هذا التوقيت هو بحد ذاته جدير بالغوص فيه ووضعه على طاولة البحث لمناقشة ايجابياته وسلبياته.

لا شك أن لبنان كوطن ليس هو الأول من نوعه بين بلدان العالم بتعدد طوائفه ومذاهبه، لكنه يتميز عنهم بأنه ومنذ نشأة كيانه لم يكن مستقلاً يوماً استقلالاً تاماً منجزاً، فلكل طائفة في لبنان امتدادها السياسي وحتى العقائدي والديني، وإن كان يفصل بينه وبين بعض تلك البلدان البعد الجغرافي، ولكن ما لا يربطه معهم هو التشابه في التربية الوطنية وفكرة العيش المشترك والمواطنة المتماسكة بالنصوص والنفوس بشكل منتظم تتقدم جميعها على الانتماء الديني والتعصب له بشكل عنصري مقيت.

بمعنى آخر وعلى سبيل المثال، حين تريد الدولة ملء مركز شاغر وتطلب له تعيين موظف على أساس الكفاءة، فتسير الأمور وفق حسابات ضيقة ينتصب فيها ميزان الطوائف ويتدخل فيها كل رجالات الدين والدنيا والآخرة كما وشياطين الجن والإنس، باعتبار أن لا وطن يستقيم دون أن نختار هذا الموظف أو ذاك إن لم يكن إما مارونياً، أو أرثوذكسياً أو كاثوليكياً، سنياً، شيعياً أو درزياً، وقد يصل بنا الأمر إلى أن يجتمع من أجله مجلس البطاركة والمجلس الإسلامي السني أو الشيعي الأعلى، باعتبار أن هذا الموظف نفسه نبي مختار، وإن لم يتم تعيينه نكون قد خالفنا تعاليم “اللات والعزة” وجحدنا بالرب، وخرجنا عن طاعة الله تعالى وكفرنا بملائكته ورسله وبالكتب السماوية، وقد يصل بنا الأمر إلى أن نشعل حرباً ضروساً بعد انتفاضة طائفية ومذهبية ننادي بها بحقوقنا كمسيحيين أو كمسلمين.

كما ومن الأسباب وراء ظهور فكرة مشروع الفيدرالية من جديد هو استمرار المناوبة والمداورة في استقواء كل طائفة على طائفة أخرى، فجرّب لبنان استقواء المارونية السياسية ففتكت به، وجرب لبنان استقواء السنية السياسية فاستفردت به، وأتت الشيعية السياسية فاشعلت حروب كونية في البلد وخارج البلد. فهذه تستقوي بهذا وأخرى تستقوي بذاك.

إضافة إلى ذلك، نجد أن الطائفة الشيعية وتحديداً الثنائي منها يبث أن عند كل مفترق سياسي، ومن حين إلى آخر، فكرة مشروع المؤتمر التأسيسي ويشيّعون له، والذي يتخوف معه بأن تذوب طوائف على حساب طوائف أخرى، إذا ما تحقق وأصبح حقيقة وواقعاً.

فلبنان دائماً ينعم بحروب مستمرة كل عشر أو خمسة عشر عاما كونه على صفيح ساخن من التجاذبات السياسية بين البلدان التي تعتبره نقطة عبور مركزية لمصالحها.

حتى هذا اللبنان البلد الصغير على خريطة العالم، ينتظر دائماً لتشكيل حكومته انتخاب رئيس جمهورية موزمبيق أو رئيس دولة الدومينيكان.

ولا شك في أن معاودة إطلاق فكرة الفيدرالية سببه أيضا سلاح “حزب الله” بالذات المرتبط ارتباطاً وثيقاً بإيران، وهو سلاح بات خارج عن سيطرة الدولة يستقوي به عليها وعلى مساحة رقعة الوطن وهو، أي حزب الله، مسلح ببيان وزاري دائم تحت حجة تحرير المناطق المحتلة من الكيان الصهيوني.

علما أن هذا السلاح قد طال وجوده وأمده وأصبح يشكل لدى الغالبية من اللبنانيين ومنهم المسيحيون بشكل خاص هاجساً قوياً وتخوفاً على وجودهم، كما على هوية لبنان كوطن وكيان ساهم المسيحي نفسه بتأسيسه.

فكل الطوائف جربت السلاح وانتشر بين أيديها بدءاً من حزب الكتائب مروراً بأمل والمرابطون والإشتراكي الذي فصل نفسه يوماً وتقوقع بكانتون خاص له في الجبل، وصولاً إلى حزب القوات اللبنانية الذي كاد أن يعلن دولة مستقلة له قبل الاجتياح الإسرائيلي برعاية بيغن وشارون، فلكل سلاح بين الطوائف في لبنان دولة خارجية ورجال.

ومن الأسباب التي هي في غاية الأهمية والتي ساهمت وسارعت في فكرة الفيدرالية والحياد بين المجتمع المسيحي أكثر من أي وقت مضى، هو تصرفات التيار الوطني الحر المثيرة للجدل، وهو التيار السياسي المنبوذ لبنانياً وعربياً ودولياً، وهو أيضاً الذي انسلخ عن مجتمعه المسيحي حتى كاد يكون بكل المقاييس تياراً أقرب إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية منه إلى الجمهورية اللبنانية، وذلك على وقع تصرفات رئيسه جبران باسيل، تلك الشخصية التعطيلية التي أتت إلى عالم السياسة عن طريق الصدفة البحتة، وهي لا شك شخصية غير محببة كاريزماتية على قلوب البشر، وخاصة بعد تجربة سيطرته على قرار الرئاسة والحلول مكان عمه ميشال عون رئيس الجمهورية الذي سلّم له الأمر والطاعة.

أضف إلى كل ذلك أن التيار الوطني الحر تمادى بورقة تفاهم مار مخايل وذهب بها إلى أقصى الحدود، ليستقوي من خلالها على باقي الأحزاب المسيحية ويسيطر على قرار طائفته، ما سرّع بالتالي الخطى نحو مشروع الفيدرالية.

في مطلق الأحوال فإن طرح مشروع الفيدرالية بات رائجاً في أوساط الأجيال الجديدة الرافضة للنظام السياسي السائد في البلاد، على قاعدة لعل فيه الخلاص والعيش في وطن مستقر مع من يشاركونهم التطلعات نفسها.

هذا وبالمقارنة مع الصيغة التي أفضى إليها التشويه المتمادي لاتفاق الطائف والذي بلغ ذروته مع العهد الحالي، بات ممكناً تفهم التطلعات نحو الفدرالية مع من يطرحها، ومناهضة تجاوزات دستور الطائف باتت تحتاج إلى أكثر من شعار ومشروع يستدعي معه البحث جدياً في وضع حد لتجاوزات الدستور وخرقه من فريق العهد، هذا الدستور الذي كرس النظام البرلماني الديمقراطي للجمهورية اللبنانية ولم يكرس النظام الرئاسي فيها كما يحاول فريق العهد نفسه الدفع باتجاهه، ذلك أنه في النظام البرلماني لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولاً امام المجلس النيابي عن أدائه في السلطة لأن صلاحياته بروتوكولية غير فاعلة في السلطة التنفيذية، فلا يمكنه بالتالي أن يكون له وزراء مسيحيون أو غير مسيحيين فيكونون بذلك مسؤولين أمام مجلس النواب مع رئيس الجمهورية الذي اختارهم وسماهم.

في المحصلة، وغوصاً بفكرة الفيدرالية نفسها، هي فكرة دونها عقبات ومشكلات غير مرئية عند تطبيقها في بلد تحيط به بلدان مؤثرة قوية تكاد تبتلعه في أي لحظة، فكما لدستور الطائف ثغرات عند تطبيقه، فللفيدرالية فجوات تكاد تشعل حرباً حقيقية عند إعلان كل طائفة لحدودها، هذا إن لم تصدر لنفسها جواز مرور خاص بوجه الطوائف الأخرى، حين تدخل إلى مناطقها، بعكس دستور الطائف الذي يعترف الجميع له بانه بالرغم من ثغراته أوقف حرباً طويلة ذهب ضحيتها الآلاف المؤلفة من اللبنانيين من جميع الطوائف والملل.

لبنان يا سادة هو لبنان وليس أميركا ولا سويسرا.

والسؤال الذي يطرح نفسه: أمام كل تعقيدات الواقع اللبناني، كيف مع هكذا نظام فيديرالي تحل مسألة السياسات الدفاعية أو السياسات الخارجية أو المالية منها بشكل مركزي، وبقرار موحد من الحكومة الفيدرالية التي تضم اربعة أعضاء من الطوائف الأساسية، التي تتكرس وتتحول على الفور بالنظام وبالقانون إلى اثنيات وسرديات غير وطنية ترتبط كل منها بالخارج، ولكن الآن بشكل دستوري فيدرالي مقونن وبالنظام؟

أليست اللامركزية الإدارية هي أقرب للحل في تطبيقها من كل تعقيدات الفيدرالية التي هي أقرب إلى تقسيم يزيدنا تقوقعاً على تقوقع واصطفافاً على اصطفاف؟

أوليس الذهاب إلى سد ثغرات دستور الطائف الذي أوقف بالممارسة انتخاب رئيس جمهورية لسنوات، وأوقف تشكيل حكومة لأشهر طويلة، وقعه ألطف بكثير من نظام فيدرالي يكاد يكون وقعه ثقيلاً على الآذان لأنه بحد ذاته مشروع تقسيمي وخطير؟

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً