“هَبَّتْ رياحٌ شرقية”… أين بيروت بين طهران والرياض؟

كمال دمج
كمال دمج

تفوَّقت المصالح الاقتصادية الاستراتيجية الكبرى للتنين الصيني، ومجريات رؤية ٢٠٣٠ للمملكة العربية السعودية، على غطرسة نظام الملالي في إيران بعد أن وصل به الأمر إلى حدود الإنهيار داخلياً، فأنتجت إتفاق مصالحة بين قطبي الصراع في الشرق الأوسط برعاية بكين، بحيث أعيدت العلاقات الديبلوماسية وبعض العلاقات التجارية بين الرياض وطهران بعد انقطاع طويل تخلله صراع دموي ما كانت لتنتهي أحداثه إلاَّ بالحوار الذي كَسِبَ جولاته منطق الحق والقانون في مواجهة عقيدة التوسُّع والإرهاب.

إنَّ أبرز ما خلص إليه الاتفاق هو الاشتراط على إيران عدم التدخل في شؤون الدول العربية واحترام سيادتها، بحيث وضعت مهلة شهرين كحد أقصى لإعادة افتتاح السفارات في كل من البلدين، ما يضع خلالها على إيران عبء إثبات نواياها الحسنة التي لا بدَّ من توافرها لترتيب مفاعيل هذا الاتفاق الذي يعتبر الأهم على صعيد المنطقة منذ زمن، والتي من المفترض أن تبدأ من الساحة اليمنية الأخطر بالنسبة الى السعودية على الصعيد الأمني، وبالنسبة الى الصين على صعيد الممرات التجارية وتطلعاتها في العديد من الاستثمارات.

وفي هذا الاطار، ما مدى قابلية هذا الاتفاق للتطبيق في ظل قوى الأمر الواقع في عدَّة عواصم عربية وفي صلب العديد من النزاعات التي يتخطى قوامها حدود العلاقة بين إيران والسعودية، ومنها لبنان مثلاً؟ وما مدى مناعته من الإنهيار أمام كيد نظام الأحادية في ظل إرسائه نمطاً جديداً وتوازن قوى خارج المفهوم المعتاد للسيطرة؟

بعد أن بات من الفخر للحرس الثوري الايراني أن يمسك مفاتيح برلمانات أربع عواصم عربية تشكِّل الهلال الشيعي لدولة الولي الفقيه التي أُزهقت لقيامها ملايين الأرواح وشُرِّد لأجلها الملايين من شباب ونساء وشيب وأطفال من العرب، وبعد أن أنهكت الأنظمة العربية بخرقها وتكبيلها وتعطيل آلياتها ورسم معالمها بالدم والنار، وبعد أن أبيدتْ الجماعات القابلة للتحضُّر بالأسلحة الكيميائية والإرهاب وفائض الكبتاغون العابر للقارات، وبعد أن بات العالم العربي، والخليج خصوصاً، أسير التطرُّف النووي لنظام في إيران، وبعد أن بات من الاستراتيجي لدول الخليج أن تنتقل من مرتبة الدفاع الدموي إلى مرتبة الهجوم الحضاري المرتكز حصراً على فرض الوجود إقتصادياً وتنموياً وديبلوماسياً وسياسياً، وبعد أن أدرك النظام الإيراني عبثيَّة سياساته وحجم التحولات الداخلية لديه وحجم تبدُّل موازين القوى في المنطقة، أُجبِرَ أخيراً على الإنضباط لضمان حد أدنى من الاستمرار وذلك على نحو يدعو إلى الغرابة من التوقيت والاخراج.

لقد جاء الاتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران بعد سنتين من المفاوضات العسيرة برعاية أكثر من وسيط، إستطاع في نهايتها الرئيس الصيني، وبجهود مضاعفة، إرساءه، في لحظة سياسية متوتِّرة على صعيد العالم ووسط إرباك أميركي من مجمل القضايا وأهمها الحرب الروسية على أوكرانيا، ووسط انهماك أوروبي بالمستجدات الاقتصادية والمعيشية، ما وضع الصين موضع القادر على إنتاج السلام من دون عناء، في اتفاق لاقى ترحيباً عالمياً لما يمكن أن يبنى عليه من استقرار في منطقة الصراع الأكثر تعقيداً على صعيد العالم.

ومن هذا المنطلق، تظهر عقبات تضعف الآمال باستمرارية هذا التلاقي وتوفير أجواء حسن تطبيقه، بحيث أنَّ الدور المستجد للصين في منطقة الشرق الأوسط والذي قد يمنحها قيمة محورية وتقدماً لا بأس به إقتصادياً، سيدفع الادارة الأميركية إلى رد فعل لإعادة فرض الوجود، خصوصاً وأنَّ هذا الحدث قد أظهرها في موقع المتفرِّج والمتلقي بعد أن اعتادت دور المخرج في قضايا مصيرية كهذه، ووضعها موضع إحراج في حال تجديد الولاية للحكم الديموقراطي بحيث ستكون أمام تحدي الخلاف الجدي بينها وبين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي يظهر في كل مناسبة عدم تناغمه مع الادارة الديموقراطية. فمنذ متى تصدر وزارة الخارجية الأميركية بياناً لتقول فيه انَّ الإدارة على علم بما حدث؟ فقد ظهرت كأنها تودُّ الإعلام بدرايتها للأمور، مع ما تضمنه البيان من تقليل لقيمة الاتفاق إستناداً الى عدم الثقة بالتزامات النظام الإيراني. إلاَّ أنَّ هذا الخلاف يبقى ضمن حدود التنسيق والتعاون الأمني العميق بين وزارة الدفاع الأميركية والحكومة السعودية الذي لا غنى عنه إجمالاً في الوقت الحاضر.

وعلى صعيد خاص، أظهر هذا الاتفاق عدم تنسيق، لا بل تباين عميق في المواقف بين النظام الايراني وميليشياته في الدول العربية وأبرزها “حزب الله”، إذ أنَّه وقبل أربع وعشرين ساعة على إعلان التوصُّل إلى الاتفاق من بكين، صرَّح الأمين العام للحزب في خطابه من بيروت بأن من يعوِّل على تسوية إيرانية – سعودية يجب أن ينتظر مئة عام، ما شكَّل سقطة تاريخية وضعفاً كبيراً في موقف الحزب الذي أظهر تناقضاً كبيراً مع الموقف المُشَغِّل، والذي يظهر أيضاً نوعاً من دورٍ مستقل ومتنامٍ للحزب في لبنان على الصعيد السياسي وعلاقات لبنان بدول المحيط والعالم بوجود سلاحه ومصادر التمويل الذاتي وهيمنته على المرافق الأساسية للدولة.

وما يظهر فعلاً أنَّ لبنان ليس في صلب هذا الاتفاق ولا حتَّى في جزء منه، إنما فقط مجرَّد متلقٍ لرياح تهدئة لن تدوم طويلاً في ظل الصراع الداخلي الذي يتحوَّل تدريجياً إلى فصل طائفي عقائدي وفكري حاد جداً في ظل استمرار تعنُّت “حزب الله” في مسألة فرض مرشحه أو في فكرة جلب التسويات لحسابه بحدِّ السيف، وعن الطرف الآخر في نهج الهروب نحو الفديرالية المُتَّسِمَة بالتقسيم من القوى المسيحية التي ما استطاعت حتَّى الآن أن تفرض مرشحها إلى الكرسي الماروني الأوحد في الشرق الأوسط، إنما جُلَّ ما وصلت إليه التلاقي على فرض التعطيل، وهذا ما يظهر عمق الأزمة اللبنانية وانفصالها الحقيقي عن القوى الفاعلة في المنطقة التي ينحصر دور بعضها في دعم المؤسسات العسكرية التي أيضاً لن تستطيع الصمود أكثر أمام تنامي حِدَّة الكارثة الاقتصادية والتشرذم المجتمعي.

شارك المقال