48 سنة على تعميم الفساد

محمد علي فرحات

إعادة العلاقات الديبلوماسية بين السعودية وايران واحترام سيادة الدولتين والدول الأخرى، لا شك في أنه سينعكس ايجاباً على المشرق العربي الذي انهارت دوله ومجتمعاته، لكن الأمر يحتاج جهداً ووقتاً، وتبقى العيون شاخصة الى طهران التي ستجد صعوبة في التخلي عن تصدير الثورة بانتهاك سيادة الدول المستهدفة بهذا التصدير.

ولن يكون الاتفاق السعودي – الايراني الموقع في الصين حلاً للمشكلة اللبنانية المعقدة يشبه سقوط المطر على أرض عطشى، اذ يصعب على زعماء الميليشيات الذين يحكمون وطن الأرز أن يخففوا من بطشهم وعدائهم للشعب الأعزل بعدما وصلت الأحوال الى حدّ الكارثة والتعامل مع المواطنين الى حدّ الاستعباد. وما كان اللبنانيون عبيداً مثلما هم اليوم، عبيداً بضرورات العيش ووهم المحافظة على الطائفة.

وقد سقطت الأوهام وتبين ما كان ظاهراً بوضوح ولم تره العيون التي أصابتها غشاوة: أن اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب لم ينفذ، وأن زعماء الميليشيات عملوا على تعديله بموافقة الجيش السوري ورعايته، واستبعدت بنود أساسية أهمها انتخاب برلمان خارج القيد الطائفي، وانتخاب مجلس شيوخ تناط به قضايا أساسية للطوائف التي يعترف الجميع بأن تاريخها أعمق من تاريخ دولة لبنان الكبير التي أنشئت بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار السلطنة العثمانية.

ان تعديل اتفاق الطائف، بل تشويهه، هو ما سمح بانتقال زعماء الميليشيات من مواقع تخريب الدولة الى مواقع قيادتها. وهذا يسري على معظم الحاكمين بعد الطائف وتبقى القلة استثناء، بل ان شخصية مؤثرة مثل رفيق الحريري اضطرت الى الاعتراف بوجود الميليشياويين في الدولة ومحاولة التعايش معهم والتخفيف من شرورهم لتمرير إعمار بيروت ولبنان. لكن قادة الميليشيات بقوا في الحكم بعد استشهاد الحريري الأب، واضطر الحريري الابن الى التعايش معهم هو أيضاً حتى وصل به الأمر الى اعتزال الحياة السياسية الى حين لا يُعرف مداه.

48 سنة على بدء الحرب الأهلية مرّ خلالها لبنان بفترات استراحة قليلة لا يصح أن تسمّى سلاماً سياسياً واجتماعياً، ولا يذكر صورة لبنان السابقة سوى طاعنين في السن يتحدثون عن الماضي كأنهم يتذكرون بلداً آخر غير الذي يعيشون فيه. ان معظم اللبنانيين اليوم يشكون من حكم السياسيين الميليشياويين لكنهم يتعايشون معه بضرورة الأمر الواقع، بل ان قيم الميليشيا هي ما يسود المجتمع اللبناني اليوم، ومعارضو هذه القيم يعيشون على الهامش منصرفين الى نقاء يشبه المرض، فالمواطن الصحيح اليوم هو الذي يتبنى قيم زعمائه الميليشياويين ويسير على خطاهم في سرقة المال العام واللجوء الى ذريعة الطائفية لتبرير أخطائه وجرائمه، وهو حينما يشكو يحدد الشكوى في عدم استطاعته المشاركة بفاعلية في سرقة المجتمع والدولة إذ يبقى له الفتات بعدما أصبحت الكعكة في معظمها ملكاً حراماً للزعيم وصحبه الأقربين.

ليس في لبنان فساد سلطة وحسب، بل أيضاً فساد مجتمع بحكم العيش. أما القيم الانسانية فهي مطرودة خارج الحدود. نحن في مجتمع لاهث خلف المال بكل الوسائل، يرى الهاوية أمامه لكنه يستمر في الركض كأنه لا يصدق ما يرى، أو كأنه يدمج بين الوصول الى الهدف والانتحار.

ويحدثونك عن اهتمام عربي ودولي بحل المشكلة اللبنانية. لكن المهتمين هؤلاء سيفاجئهم السؤال الأول: أين هو البديل لأهل السلطة الفاسدين بعدما صبغ فسادهم عقول معظم المواطنين وعواطفهم؟ وكيف نأتي بأشخاص طبيعيين الى الحكم ينطلقون من مبدأ أولي في السلطة هو التفرقة بين المال العام والمال الخاص، واعتبار المحافظة على أموال الدولة وممتلكاتها واجباً أول ومدخلاً الى الواجبات الأخرى؟ أنظر الى هذا المسؤول (أو ذاك) بكامل قيافته وكيف أن اللصوصية تبدو في نظرة عينيه وحركة يديه والتأليف المرتبك لكلامه حين يخاطب الناس.

ومثلما كان مسار الفساد طويلاً في لبنان فان مسار مكافحته يحتاج الى وقت أطول. وفي الانتظار لا يعرف القليلون جداً غير الملوثين ما هو مصير بلدهم أمام سلاح اسرائيل وخراب سوريا وحكام وطنهم الذين يبيعون الأوهام ولا يريدون الرحيل.

شارك المقال