الظروف الاستثنائية… في القانون والاجتهاد اللبناني

كمال دمج
كمال دمج

في الآونة الأخيرة، عَلَتْ بعض الأصوات وظهرت بعض الآراء التي تعتبر أنَّ القوانين تسقط في حضرة الظروف الاستثنائية وقوَّة الأمر الواقع، مؤيِّدين فكرة تخطي القوانين النافذة مجاراة للوضع الطارئ.

في هذا الاطار، ما هو مفهوم الظروف الاستثنائية في القانون والاجتهاد اللبناني؟ ومتى يُعمَل بهذه الظروف، وكيف؟ وما هي القيود على سلطة الادارة في هذه الظروف؟

على الرغم من وجوب تقيُّد كل المسائل والتصرفات والأعمال القانونية للسلطات والمؤسسات والأفراد بمبدأ سيادة القانون، أي الخضوع لأحكامه، جاءت نظريَّة الظروف الاستثنائية لتكرِّس مبدأ “سلامة الشعب هو القانون الأسمى” الذي يتيح الخروج عن الأحكام القانونية المعمول بها في الظروف العادية عند توافر ظروف خارجة عن المألوف، وذلك ضمن شروط معيَّنة.

إنَّ هذه النظرية في الأصل من وضع الاجتهاد الفرنسي، وقد أخذ بها الاجتهاد اللبناني بحيث عرَّف الظروف الاستثنائية في العديد من القرارات والأحكام على أنها ظروف شاذة خارقة تهدد السلامة العامة والأمن والنظام العام في البلاد، ومن شأنها ربما أن تعرض كيان الأمة للزوال. وقد توسَّع الاجتهاد في مفهومها فقسَّمها إلى “ظروف عصيبة” تنشأ إثر الحرب والتي لها أحكامها الخاصة في لبنان وفق المرسوم الاشتراعي رقم ٥٢/ ١٩٦٧ المتعلِّق بإعلان حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية، و”ظروف حرجة” تنشأ وقت السلم تكون خطيرة كالكوارث والأزمات التي تشكِّل تهديداً للنظام العام أو لمعيشة المواطنين أو لصحتهم أو للاقتصاد الوطني.

وقد اعتبر الاجتهاد اللبناني أنَّ بتوافر الظروف الاستثنائية تستبدل المشروعية العادية بمشروعية إستثنائية تتيح للسلطات الخروج عن أحكام الدستور والمبادئ الدستورية أو القواعد ذات القيمة الدستورية وأن تتمتع بصلاحيات واسعة لم توردها القوانين والأنظمة التي وُضِعَتْ في الأصل لتتماشى مع الأوضاع العادية، وذلك عندما يكون ضرورياً حماية الانتظام العام وضمان استمرار المرافق العامة وصوناً لمصالح البلاد العليا بحيث تتحرر السلطات الادارية والتشريعية من وجوب إحترام الأصول وحتَّى الحريات العامة المنصوص عليها في القوانين والأنظمة، كذلك يجوز لها الامتناع عن اتخاذ تدابير واردة ضمن سلطتها المقيَّدة، أو حتَّى الامتناع عن تنفيذ حكم قضائي نهائي إذا رأت أن تنفيذه سيؤدي إلى إخلال بالنظام والأمن.

إلاَّ أنَّ هذه الصلاحيات التي تفرضها الظروف الاستثنائية تتقيَّد بشروط وجب توافرها مجتمعة لإعمالها المشروعية الاستثنائية والتي تبدأ من وجوب تحقق الظرف الاستثنائي فعلاً، أي وجود حالة واقعية تشكِّل خطراً يهدد قيام السلطة بوظائفها، كما يجب أن تكون السلطة عاجزة عن مواجهة الظرف الاستثنائي بوسائلها العادية، وأن تكون تدابيرها الاستثنائية المتخذة متناسبة مع الظرف الاستثنائي أي أن لا تتعسف السلطة في تصرفاتها وأن يكون التصرف بالقدر اللازم لدفع هذه الظروف بحيث أنَّ الضرورة تقدَّر بقدرها فلا تتم التضحية بمصالح الأفراد إلاَّ بقدر ما تقتضيه الضرورة، فيُفرَض على السلطة اختيار أنسب الوسائل وأقلها ضرراً إعمالاً لهدفها الأسمى من هذه التدابير وهو تحقيق الصالح العام. إضافة إلى ذلك، يستوجب على السلطة حصر تصرفاتها الاستثنائية بفترة الظروف الاستثنائية بحيث عندما تنتهي هذه الظروف وجب على السلطة العودة إلى المشروعية العادية. وتبقى هذه الشروط تحت رقابة مجلس شورى الدولة على أعمال السلطة الاجرائية ورقابة المجلس الدستوري على الأعمال التشريعية، اللذين يمكنهما إبطال أي من التصرفات المخالفة.

وقد سبق للبنان أن أعلن حالة الطوارئ الصحية الشاملة والتعبئة العامة في البلاد بسبب تفشي وباء “كورونا”، كما أعلنت حالة الطوارئ الجزئية في العاصمة بيروت إثر تفجير المرفأ. إلاَّ أنه حالياً وبسبب الأزمة الاقتصادية الأخطر في تاريخ لبنان، هل تتوافر الظروف الاستثنائية التي تتيح للسلطات اتباع مشروعية إستثنائية؟

بما أنَّ لبنان منذ أقل من سنة، شهد انتخابات نيابية تشكَّل على أثرها مجلس جديد بصلاحيات متكاملة يقتضي عبره تشكيل باقي السلطات انطلاقاً من انتخاب رئيس للجمهورية، وبما أنَّ لا دور تشريعي ولا حتَّى انتخابي له في ظل التكتلات والمتاريس السياسية القائمة على أسس طائفية وحجج الميثاقية والتوافق، في مشهد تعطيلي متكامل في ظل فراغٍ رئاسي وحكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات، ومع ما يرافق ذلك من تهالك في السلطة القضائية، وبما أنَّ المجلس الدستوري في إجتهاد سابق أكَّد على أنَّه لا يجوز التحجج بالميثاقية والتوافق لأن ذلك يؤدي الى تقويض الأسس التي قام عليها الميثاق الوطني، وبالتالي تقويض التعهدات الوطنية والنظام والدولة، إنَّ برأينا لا ظروف إستثنائية في البلد تتيح للسلطات إعمال مشروعية إستثنائية لأنَّ لا مجال لمكافأة الشخص على خساسته، بحيث تتمثل خساسة السلطة الحاكمة بافتعال الأزمة وتفاقمها وعدم تأثرها ومبالاتها، ومن يفعل ذلك لن يقوم بما هو إستثنائي لإعمال الصالح العام.

شارك المقال