هل حقاً ساء تفاهم مار مخايل؟

عاصم عبد الرحمن

في 6 شباط 2006 وقَّع كلٌّ من حسن نصر الله وميشال عون على وثيقة تفاهم سياسي عرفت بـ “مار مخايل” نسبةً الى الكنيسة التي احتضنتها، ومنذ ذلك الحين يخوض “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” معاركهما بالوكالة عن بعضهما مانحيَن نفسيهما غطاءً سياسياً وطائفياً حتى أوصل الجنرال إلى بعبدا رئيساً للجمهورية. إلا أن العقوبات الأميركية التي فرضت على جبران باسيل شكلت محطة مفصلية في العلاقة بين التيار والحزب تتطاير شظاياها عند كل استحقاق سياسي أو دستوري، فهل باتت وثائق هذا التفاهم من الأرشيف أم أنها عراضة سياسية لإغراء الأميركيين؟

فرضت وزارتا الخزانة والخارجية الأميركيتان في 6 تشرين الثاني 2020 عقوبات على رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل الحليف الأبرز لـ “حزب الله”، وأوردت وزارة الخزانة في بيان نُشر على صفحتها أن العقوبات فُرضت على باسيل بسبب دوره في انتشار الفساد في البلاد بموجب القرار التنفيذي رقم 13818 (قانون ماغنتسكي) والذي يستهدف مكافحة الفساد ومنع انتهاكات حقوق الانسان حول العالم. واختتم البيان بأنه نتيجة لتورط باسيل في الفساد فلن يكون مؤهلاً لدخول الولايات المتحدة بموجب القسم 7031 (C) من قانون وزارة الخارجية الأميركية والعمليات الخارجية الصادر في العام 2020.

ما إن حُرر هذا البيان حتى انطلق جبران باسيل في رحلة الألف ميل نحو رفع هذه العقوبات عنه نظراً الى ارتداداتها السياسية عليه كطامح الى رئاسة الجمهورية، وعلى تياره السياسي وارتباطات رجال أعمال لبنانيين ينتمون إليه ولهم مصالحهم في الولايات المتحدة، فخروجهم من النظام المالي العالمي من شأنه أن يطيح بها وهو ما سيوقف تمويلهم لـ “التيار الوطني الحر”. وحين أدرك باسيل أن المسار القانوني لرفع هذه العقوبات يستغرق سنوات ويبدأ بتكليف مكتب محاماة يتطلب تكاليف مالية باهظة ما يعني أن هذا الخيار يصب في خانة شبه المستحيل، ارتأى أن خيار الابتعاد عن “حزب الله” من شأنه أن يمهد السبيل لرفع هذه العقوبات على اعتبار أنه قدم خدمات سياسية باهظة الثمن له عبر المؤسسة الدستورية الأولى وهي رئاسة الجمهورية وتسخير منابرها للدفاع عن سلاحه غير الشرعي، لا بل إيذاء لبنان بعلاقاته مع الأشقاء العرب والخليجيين من خلال الدفاع عن ارتكابات الأذرع الإيرانية المنتشرة في المنطقة العربية خصوصاً في اليمن وسوريا.

وعليه، ومن دون الغوص في المناكفات السياسية اليومية بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” من حضور جلسات مجلس الوزراء إلى تبني ترشيح رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية حتى وإن بلغت هذه المناكفات حدَّ اتهام باسيل لنصر الله بالكذب، إلا أنه عند الاستحقاقات المصيرية والتي لا عودة عنها كالانتخابات النيابية أو مفاوضات تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات التي دعم فيها “حزب الله” موقف الرئيس السابق ميشال عون، فسوء التفاهم بين الطرفين يجلس جانباً حين تُمرر مصالح الفريقين ومن ثم يعودان إلى تقديم العرض المسرحي شبه اليومي. وقد منح الحزب التيار بحدود الـ 7 مقاعد نيابية عبر توزيع أصواته في المناطق المحسوبة عليه أو التي يمتلك فيها حيثية انتخابية خصوصاً في بعلبك – الهرمل وبيروت وجبيل والمتن وغيرها، فهما يدركان تماماً أن الحاجة إلى بعضهما لا تزال قائمة وماسة ولا يمكنهما الاستغناء عن تحالفهما طالما أنهما يؤمنان مصالحهما ويتبادلان الخدمات السياسية بدليل عدم مضي “التيار الوطني الحر” في التصويت بغير ورقة بيضاء أسوة برغبة الحزب وخياره حتى قبل تبني فرنجية مرشحاً أوحد للثنائي الشيعي، كذلك فالتيار كان يساهم أيضاً في تطيير نصاب الجلسة الثانية لانتخاب رئيس للجمهورية.

لا شك في أن “حزب الله” يمكنه أن يتقبل التمايز الفظّ الذي يمارسه جبران باسيل عنه على اعتبار أنه يقوم بتقديم أوراق اعتماد الابتعاد سياسياً عن المقاومة للأميركيين والذي يدّعي أنه لا يؤيدها في مختلف خياراتها السياسية لا بل يعارض، يرفض، يواجه ويتحدى… طالما أن الثمن هو رفع العقوبات عنه والتي تركت آثارها السلبية على مستقلبه السياسي؛ فهو منذ اللحظة الأولى لصدور قرار العقوبات راح يحمّل “حزب الله” المسؤولية عنها ويفرض عليه فاتورة العقوبات عند كل استحقاق سياسي، دستوري أم وطني. واعتاد الحزب غض الطرف عن منصة الصواريخ الباسيلية على اعتبار أنها أسلحة فارغة والمراد منها يقع خلف البحار.

يدرك جبران باسيل تماماً أن الحزب لن يشارك في أي عهد رئاسي أو تسوية سياسية ما لم يكن شريكاً فيها، لا بل سيحفظ له حصة الأسد سواء انتخب فرنجية أو جوزيف عون أو غيرهما.

وفي حال تمكن باسيل من إقناع الأميركيين بابتعاده عن الحزب ورفعوا العقوبات عن كاهله السياسي، فستتحول العلاقة بينهما إلى شراكة وطنية كأي فريق سياسي آخر تحت شعار أن الحزب منتخبٌ من الشعب وبالتالي فإن الديموقراطية تحتم عليه محاورته. أما في حال لم يتمكن من تحقيق هدفه الأميركي فسيبقى باسيل مرتمياً في أحضان حارة حريك على اعتبار أنه بات وحيداً لا حلفاء ولا أصدقاء له وتكتله النيابي إلى تراجع نظراً الى تعمق الخلافات والاختلافات بين العونيين والباسيليين تظهرت إلى العلن مع قرب انتهاء ولاية ميشال عون.

طالما أن الحزب والتيار لم يعلنا الانفصال النهائي تارةً بحجة الظروف الراهنة غير الملائمة، وطوراً أن الفريقين يقومان بدرس جدوى استمرار التحالف من عدمه، فهما لا يزالان متفاهمين لا بل تعمّق التفاهم أكثر وهو يقوم اليوم على توزيع الأدوار بين الطرفين كلٌّ وفق مصلحته التي تستند الى كتف الآخر. خاصم التيار معظم الشارع المسيحي نتيجة انصهاره سياسياً بالحزب، والحزب خاصم معظم الفرقاء السياسيين كرمى لعيون الصهر الذي أُوقف استحقاقات عدة حتى نال ما أرضاه، فهل يتبدد تفاهم مار مخايل أم يتجدد بحلة أكثر تفاهماً؟

شارك المقال