“التطبيع”… تمرد على أميركا أم خوف من ايران؟

أنطوني جعجع

فجأة انطلق “التطبيع” العربي في اتجاه النظام الحاكم في دمشق، وفجأة أيضاً عاد بشار الأسد يطرق أبواب الخارج رئيساً “مقبولاً ومرحباً به” وكأن كل ما ميّز سوريا وخياراتها وممارساتها وأضاء على السوريين ومعاناتهم في السنوات العشر الماضية، تحوّل مسألةً تتفاوت بين “الغفران” في مكان والنسيان في مكان آخر.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: اذا كانت روسيا في موقع استراتيجي جوهري يسمح لها باحتضان الرئيس السوري الذي فتح لها شواطئ البحر المتوسط، فماذا دفع ويدفع بعض العرب الى احتضان رجل لم يقدم اليهم أي خدمات أمنية يعتد بها، أو يُجمع معهم على أي خيارات قومية واقليمية مشتركة، وذلك بالتزامن مع كباش عسكري دموي بين ايران وأميركا على الأراضي السورية؟

والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه: ماذا تغيّر في “قصر المهاجرين” أو ماذا تغيّر في بعض الحسابات العربية كي ينتقل الأسد من “مجرم حرب” الى حيثية سياسية “معتدلة” أو على الأقل الى “شقيق” لا بد من مصالحته والتقرب منه لغير سبب وسبب؟

وأكثر من ذلك، هل يؤمن “المطبّعون” العرب بأن الرئيس السوري في موقع يعطيه حرية الحركة أو حرية صنع القرار من دون ضغط من أحد أو من دون شراكة مع أحد؟ وهل يؤمنون بأن الأسباب التي عزلت سوريا وعاقبتها قد انتفت، وبأنها باتت في موقع يسمح لها بتحديد مسار الحرب والسلام في الشرق الأوسط أو يسمح لها بتسوية بعض الملفات الساخنة التي تقض مضاجع العرب والمجتمع الدولي معاً؟

الواضح حتى الآن أن قرار التطبيع العربي مع الأسد، جاء في توقيت يتعارض تماماً مع جو دولي صارم ومتوتر يحظر التعامل مع النظام الحاكم في دمشق، ويكسر بالتالي، ولو معنوياً حتى الآن، الحصار المفروض على سوريا عبر “قانون قيصر”.

فهل حصل هؤلاء على ضوء أخضر أميركي تحت الطاولة، أم أنهم قرروا “تجاوز” الولايات المتحدة التي تخوض في الشرق الأوسط صراعاً مريراً مع كل من ايران المتحالفة مع سوريا، ومع الصين الزاحفة نحو المنطقة، ومع روسيا الرابضة على قسم كبير من أكتافها؟

وأكثر من ذلك، هل بلغت بعض الدول العربية من القوة العسكرية حداً يكفي للاستغناء عن الآلة العسكرية الأميركية، أو من القوة الاقتصادية حداً يكفي للاستغناء عن أسواق الغرب والاكتفاء بأسواق الشرق، أو من الملاذات الآمنة حداً يكفي لطي منافذ الخطر من هنا وهناك؟

أضف الى ذلك، هل يمكن أن يمر التطبيع العربي – السوري من دون عراقيل أو كمائن أو ألغام من جانب الولايات المتحدة التي تصر على سياسة تخيير الأسد بين البقاء في الحكم والاستغناء عن ايران، ومن جانب اسرائيل التي ترى أن التطبيع مع بعض الدول العربية لن يلوي زند الأسد الذي حوّل سوريا الى قاعدة ايرانية يرابط فيها “حزب الله” و”الحرس الثوري” على حدود الدولة العبرية؟

يكاد لا يختلف اثنان على أن الغارة الأخيرة على مطار حلب وقواعد ايرانية حدودية مع العراق، بعد يومين على زيارة الأسد لدولة الامارات العربية المتحدة، اضافة الى تحذيرات من مهاجمة ايران نفسها، ليست الا رداً إسرائيلياً غير مباشر على أي محاولة عربية لفك عزلة الأسد قبل أن يحرر سوريا من أي خطر يمكن أن يهدد أمنها في المستقبل وقبل زوال الخطر النووي المتصاعد في ايران. وليس الهجوم الايراني الذي طاول قواعد أميركية في شرق سوريا وأوقع بجنودها قتيلاً وستة جرحى، الا مقدمة على الأرجح لما يشبه تحالفا روسياً – ممانعاً في مواجهة الأميركيين الذين قابلوا الهجوم بهجوم دموي مماثل طاول مواقع إيرانية قرب دير الزور.

وما فعلته اسرائيل وأميركا فعله أيضاً الرئيس رجب طيب اردوغان الذي يخوض معركة رئاسية صعبة في بلاده، عندما انسحب من محاولات التطبيع مع الجار السوري رافضاً سحب قواته من شمال البلاد، مستبدلاً ذلك بتطبيع مع مصر، وبتمهيد مفاجئ لانضمام السويد وفنلندا الى حلف الأطلسي، واضعاً نفسه في حال تباين مع روسيا التي تخوض بالتعاون مع طهران حرباً غير مباشرة مع المعسكر الغربي فوق الأراضي الأوكرانية.

وأكثر من ذلك، تعرض الرئيس الروسي نفسه لحكم غير مسبوق من المحكمة الجنائية الدولية يقضي بتوقيفه على خلفية “جرائم ضد الانسانية”، وغرقت بلاده في أفق بوادر مواجهة مع الأميركيين فوق البحر الأسود للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب قبل عام وفي مناوشات أخرى في الأجواء السورية.

وهنا لا بد من سؤال جوهري: من يقف وراء الحملة العسكرية على القوات الأميركية في سوريا، هل هي موسكو؟ هل هي اسرائيل؟ هل هي ايران؟ هل هي أميركا نفسها؟

الجواب أن كل فريق من هؤلاء يملك مصلحة ما في إشعال الجبهة السورية، منهم من يريد إحراج الأميركيين أي الروس والايرانيون، ومنهم من يريد خربطة التطبيع ومنهم الاسرائيليون والأميركيون. والجواب أيضاً أن شيئاً ما يشير الى نوع من “التمرد” العربي على الاستراتيجية الأميركية والغربية في المنطقة وهو “تمرد” لم تشهده واشنطن منذ حرب تشرين في العام ١٩٧٣ خصوصاً أنه يخالف سياسة الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يرى في الأسد امتداداً لخط استراتيجي ممانع ومحطة أساسية لثلاثة ملفات جوهرية؛ الأول النفوذ الروسي الوحيد على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، والثاني النفوذ الايراني الأقرب الى حدود اسرائيل، والثالث المحطة التي تتلقى الشحنات العسكرية الايرانية التي تنقل الى “حزب الله” في لبنان وحركة “حماس” في غزة.

ويعلق ديبلوماسي غربي على التحرك العربي – السوري المتبادل قائلاً: إن ما يجهله العرب أو ما يحاولون الالتفاف عليه هو اعتقادهم أن “عروبة” الرئيس السوري تتقدم على أي ولاءات أخرى سواء كانت روسية أو ايرانية على المستوى الخارجي، أو علوية – شيعية على المستوى الداخلي، أو اعتقادهم أن الرجل هو الحاكم الأوحد والفعلي للجمهورية السورية المقطعة بين جماعته وكل من طهران وأنقرة وواشنطن والأكراد وقوات المعارضة السنية، اضافة الى ما تبقى من فلول “داعش” و”النصرة”.

وأضاف: ان العرب أخرجوا الأسد من “سجنه” اما انسجاماً مع المصالحة السعودية – الايرانية التي تضمنت ربما فك عزلة دمشق، واما لاعتقادهم أنه قادر، من خلال علاقاته مع طهران و”حزب الله” على اخماد بعض الحرائق المزمنة ومنها في لبنان.

مصدر ديبلوماسي غربي علق على هذه الخلفيات قائلاً: ان السعاة، أي العرب، ربما يجهلون أن الرئيس السوري يكاد يكون رئيساً صورياً مديناً ببقائه في السلطة لكل من موسكو وطهران و”حزب الله”، وأنه هو شخصياً يحتاج الى من يفك أسره ويشد على يده ويبقيه في السلطة بعيداً من الثورات أو الانقلابات.

وتابع: كيف يمكن للرئيس السوري أن يمارس تأثيراً ايجابياً على ايران التي يدين لها ببقائه، وكيف يمكن أن يضبط حدوده مع الدول المجاورة وهي التي تقع في معظمها تحت اشراف ايران وحلفائها، وكيف يمكن أن يساعد في طي الملف اللبناني وهو الذي لم يعد يملك فيه الا بعض الحلفاء العاجزين حتى عن ايصال نائب واحد الى البرلمان؟

وسط هذا المشهد لا بد من السؤال: وماذا بعد؟

الجواب أن الأسد ليس في موقع يحسد عليه، فهو تأخر في الحد من الوجود العسكري الايراني والأجنبي في بلاده، لا بل بات قوة عسكرية حصرية لحماية النظام، وترك الأمور الأمنية الأخرى لكل من روسيا وايران، والأمور السياسية في لبنان لكل من “حزب الله” وقوى الممانعة، والأمور القومية في فلسطين لكل من “حماس” و”الجهاد الاسلامي” وراعيهما الايراني.

وما يؤشر الى مدى التراجع في النفوذ السوري حتى في لبنان المجاور، امتناع الأسد خلال زيارته موسكو عن تبني ترشيح سليمان فرنجية علناً في خطوة تؤكد أن الرئيس السوري اما بات ينظر الى رئيس تيار “المردة” على أنه رجل حسن نصر الله في لبنان، أكثر منه صديق آل الاسد، واما الاقرار بأن كلمة الفصل في لبنان لم تعد في يديه كما كانت الحال في زمن “الوصاية”.

وهنا لا بد من سؤال أخير، اذا كان الأسد عاجزاً عن لملمة الوضع في لبنان أو استعادة هيبته فيه، واذا كان عاجزاً عن لجم الانتشار الايراني في بلاده والمنطقة، فهل يعني هذا أن العرب قرروا النأي بالنفس عن كل ما يعرقل نهضتهم الاقتصادية، وكل ما يجرهم الى محاور ومعارك استنزافية دامية كمعركة اليمن، وليسع الآخرون الى حل مشكلاتهم بأنفسهم، أم أن هناك ثمة تسوية ما تحت الطاولة تعطي الأسد حريته في مقابل العمل مع حلفائه على وقف التهريب عبر الحدود المشتركة مع كل من لبنان والأردن في اتجاه الخليج، اضافة الى انهاء ملف النازحين واعادتهم الى بلادهم في حماية “قوة عربية” تشبه” قوة الردع” التي دخلت لبنان بعد “حرب السنتين”؟

الواقع أن من يمسك بحيثيات التطبيع مع سوريا هي السعودية بالدرجة الأولى ومن يقرر فيها هي موسكو بالدرجة الأولى ثم طهران، وأن أي تسوية من أي نوع وفي أي مكان يجب أن تمر بالأطراف الثلاثة من دون أن يعني ذلك أن أميركا باتت خارج اللعبة أو الطرف الذي يهضم واقع البقاء وحيداً في مواجهة طهران و”القاعدة” و”داعش” أو الطرف الذي يترك مكانه لسواه أو يكتفي بطمأنة بعض العرب قبل أن يحصل على ما هو أثمن من التطبيع، أقله رئيس في دمشق لا يحتضن “حزب الله” و”الحرس الثوري” وروسيا، وحكم في ايران لا يدخل النادي النووي ولا يوالي المحور الروسي – الصيني.

شارك المقال