“حزب الله” أنهى معاركه الخارجية ويواصل الداخلية!

جورج حايك
جورج حايك

يوحي “حزب الله” بسلوكه السياسي والعسكري بأن ما بعد الاتفاق السعودي – الايراني هو غير ما قبله، وتراجعه عن المشاركة في الحروب والنزاعات الخارجية بات ملحوظاً، وخصوصاً تلك الحروب التي تزعج الخليجيين والعرب مثل حرب اليمن وسوريا والعراق وغيرها.

لا شك في أن أولى ترجمات الاتفاق السعودي – الايراني هي جبهة اليمن، إذ بدأ “الحزب” يخفف من حضوره هناك، عبر عودة عدد من الخبراء الذين كانوا يشرفون على تدريب الحوثيين وبعض العناصر التي كانت تستخدم المطار لاستهداف السعودية بالمسيّرات، إضافة إلى إدارته لمنصات الصواريخ، وهؤلاء انتقلوا إلى الساحة اليمنيّة منذ العام 2016. وفي الضاحية الجنوبية، هناك معلومات بأن “الحزب” أغلق قناتي “المسيرة” و”الساحات” الحوثيتين، ترجمة للاتفاق الاقليمي. من جهة أخرى، بدا واضحاً التغيير في لهجة الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله حيال السعودية، وهذا التحوّل كان سريعاً، بل بنى آمالاً كبيرة عليه ليترجم تهدئة واستقراراً على الساحة اللبنانية. والمفارقة أن هناك أدبيات جديدة لـ”الحزب” تجاه السعودية، التي يذكر اسمها الرسمي من دون الاستعداء المعروف، فمصطلح “النظام السعودي” غاب عن التداول لصالح المملكة العربية السعودية، فضلاً عن ذكر قادة السعودية بألقابهم الرسمية دونما همز أو غمز. المتابع المحايد يرصد مثل هذه التحوّلات في حزب شديد الانضباط بأدبياته المعتمدة، على الرغم من أنه لم يرصد تعميماً في هذا الخصوص.

ولا يستبعد المراقبون المطلعون على حيثيات النزاع في سوريا أن أحد شروط الانفتاح العربي الخليجي على النظام السوري، أن يبدأ “حزب الله” بالانسحاب من الميدان السوري بعد فترة، لأن وجود الميليشيات الايرانية المسلّحة، وأهمها “الحزب” يعوق عودة سوريا إلى الحضن العربي، علماً أن السعودية لم تطلب من النظام السوري الابتعاد عن إيران كثمن للتقارب مع بشار الأسد، فعلاقة سوريا بإيران ليست وليدة اليوم، لكن وجود “حزب الله” أمر مختلف وتشدد الدول العربية على انسحابه من سوريا.

وليس سراً أنه في العامين السابقين أعاد “حزب الله” تموضعه في بعض المناطق السورية، وتعتبر الغارات الاسرائيلية على مواقعه دلالة على أماكن وجوده هناك، ومن المتوقع أن ينكفئ نحو الحدود اللبنانية وخصوصاً القصير التي خبأ فيها أسلحته الثقيلة، ولن يكون أمراً مستغرباً إذا نفّذ عملية إعادة انتشار عسكري وفق مقتضيات النظام السوري المندفع عربياً.

أما جبهة “حزب الله” واسرائيل فأصبحت نيرانها خامدة بعد اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، وهذا يعني أن لا حرب بينهما بعد اليوم، بل الضمانات الأساسية في الاتفاق تنصّ على أن لا إشعال للجبهة، ولا توتّر، ولا استفزاز من كلا الطرفين. “حزب الله” طرف صامت في التعهدات بتحييد الحدود وعدم اختلاق المواجهة، هذا يعني أنه، بدعم من الجمهورية الاسلامية الايرانية، اتخذ قرار إحياء “النأي بالنفس” عن التطورات في سوريا وفلسطين، وعدم استخدام الحدود والجبهة اللبنانية ساحة للانتقام من أجل سوريا وفلسطين.

في المقابل، هناك تعهدات شفوية بأن اسرائيل لن تقوم باستفزاز “حزب الله” لأنها وجدت أن مصلحتها هي استخراج الغاز وليس التورّط في حرب تعطّل الافادة من ثروة النفط والغاز، طالما أن “الحزب” لا يستفزها.

إذاً، انتهت كل نزاعات “حزب الله” مع الخارج أو دخلت في هدنة طويلة، إذا صحّ التعبير، فيما انصرف إلى معاركه الداخلية السياسية وربما تتطور إلى أمنية، بحسب الحاجة، مع استبعاد دفع الأمور بإتجاه حرب أهلية، إنما حروب صغيرة وحالة من الفوضى واللااستقرار تؤدي إلى نزيف وهجرة كبيرة، وقد تؤثر على التنوّع الديموغرافي الموجود في البلد تاريخياً.

قبل العام 2005، لم يكن “حزب الله” مشاركاً في الحياة السياسية من الباب الواسع، لأن دوافع “المقاومة” العسكرية، جعلته بعيداً عن ذلك، لكن مع انسحاب اسرائيل من البقاع والجنوب، بدأ تحوّلات جذرية، فانخرط في النظام وبات لديه وزراء ونواب، وسرعان ما انتزع الثلث المعطّل في الحكومات بعد معركة 7 أيار 2008 واتفاق الدوحة. وهكذا، كان يخوض معركة توسّعه في الداخل عسكرياً من خلال 100 ألف مقاتل و”سرايا المقاومة”، وسياسياً من خلال المجلس النيابي والحكومة وحتى رئاسة الجمهورية بعد ايصال الرئيس السابق ميشال عون إلى قصر بعبدا.

واليوم، يبدو أن جبهات “الحزب” مع الداخل مفتوحة، فبعد 7 أيار، انتشر القمصان السود، ثم حروب صغيرة في خلدة وعين الرمانة، ومن المتوقع أن تزداد هذه الحروب في المستقبل، وخصوصاً مع عودة المقاتلين من اليمن وسوريا والعراق، فلا “شغلة ولا عملة” لدى هؤلاء إلا توظيفهم في الداخل اللبناني.

لكن “الحزب” لا يمكنه استكمال المواجهة من دون أعداء، لذا يستسهل اختراعهم، وهم جماعة السفارات وحلفاء أميركا وأدواتها، وفق أدبياته، كـ”القوات اللبنانية” و”الكتائب” وكل الشخصيات السيادية وثوار 17 تشرين، أي كل من يريد لبنان دولة فعلية، دولة القانون والمؤسسات.

لا ينكر “الحزب” أن هدفه هو إقامة الحكم الاسلامي الشيعي في لبنان على طريقة الجمهورية الاسلامية الايرانية، إلا أنه يعرف صعوبة هذا الأمر في الوقت الحاضر، إن لم يكن مستحيلاً، لذلك هو يعتمد الموعظة الحسنة وليس بالفرض أو العنف، بل غيّر استراتيجيته واعتمد المرونة العقائدية والسياسية، مبرراً ذلك بعدم توافر الشروط العملية لإقامة نظام إسلامي في لبنان.

لكن المرونة السياسية لا تعني تخليه عن الثلث المعطّل في المجلس النيابي والحكومات، وقد زاد تورطه في الساحة السياسية اللبنانية، فهو يطمح إلى انتزاع صلاحيات وامتيازات أكثر للطائفة الشيعية في النظام اللبناني، لذلك يُشاكس ويخوض التفاصيل الخلافية التي كان ينأى بنفسه عنها، وبات يلعب لعبة الخطاب التصعيدي والتجاذبات بينه وبين مختلف الفرقاء، بدليل ما يحصل اليوم في ملف رئاسة الجمهورية. ولا يبدي “الحزب” استعداده للتنازل حتى اليوم، على الرغم من الاتفاق السعودي – الايراني، بل يخوض معركة رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية وهو مرشح تحدٍ بإمتياز وترفضه السعودية رفضاً قاطعاً، إضافة إلى إجماع مسيحي على رفضه. وتمسّك “الحزب” بفرنجية سيساهم في مفاقمة الوضع السياسي والاقتصادي اللبناني وغرقه في مستنقع محور الممانعة الجهنمي، وإصراره هذا سيحرم الدولة اللبنانية من المساعدات المالية الخليجية والخروج من الانهيار.

استمرار “حزب الله” في مغامرته الاستيلائية على الدولة، وعجزه عن مواكبة التحوّلات الاقليمية وإنكاره للواقع، جعله حالياً كياناً حافلاً بالتناقضات على المستوى الأيديولوجي وعلى المستوى السياسي العملي، وحتى على المستوى العسكري، ومع ذلك، يستدعي كلّما شعر بالحرج الصراع مع اسرائيل ورفع راية “المقاومة”، حتى وإن كان هو منْ أسقط عمداً هذه الراية منذ أعوام.

شارك المقال