لبنان الجيش والطائف

محمد علي فرحات

ردود فعل السياسيين اللبنانيين على المؤتمر الافتراضي في باريس في شأن مساعدة الجيش اللبناني كانت نادرة وأقلّ من عادية، كأن الامر يحدث في كوكب آخر، وكأن الجيش اللبناني يخص دولة ناشئة في وسط أفريقيا. ونسي هؤلاء السياسيون مدائحهم للجيش وسائر القوى المسلحة في غير مناسبة واعتبارها الضامن لحفظ الدولة والمجتمع. ما حدث في باريس ومنها أمر غير مسبوق اعتبره اللبنانيون العاقلون مظهراَ للعار الوطني واستغربه المراقبون العرب والأجانب. وحده الرئيس الفرنسي لم يتفاجأ لأنه خبر الزعماء اللبنانيين في زيارتيه لوطن الأرز، وأنهم يصرحون بالشيء ونقيضه في وقت واحد، وأنهم لم يلبوا وعودهم له بتشكيل حكومة مهمة تتولى انهاض الدولة بعد كارثة المرفأ.

والحال ان السياسيين اللبنانيين خبراء في التسويف، وأول وأشهر “مآثرهم” في هذا المجال هو تراجعهم عن بنود أساسية في اتفاق الطائف، يستوي في ذلك الذين أيدوا الاتفاق والذين عارضوه. والمعنيون في الشأن اللبناني المأساوي مدعوون اليوم لاعادة قراءة الاتفاق الذي تعيش الدولة مبدئياَ استناداَ الى دستوره الجديد.

والمطلوب هو التركيز على مسار الطائف لالغاء الطائفية السياسية، والاحتفاظ بضمانات للطوائف بانشاء مجلس شيوخ يحفظ حقوقها الاساسية ويشترط موافقتها على شؤون مصيرية في المسار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ويقر الآتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية انشاء هيئة وطنية لالغاء الطائفية السياسية تمهد لأنتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي. يعقب ذلك انشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية. هذا ما أورده اتفاق الطائف بنص واضح في شأن الغاء الطائفية السياسية وطمأنة الطوائف، إذ يعرف واضعو الاتفاق ان تاريخ الطوائف في لبنان أكثر عراقة من تاريخ الدولة، وان الطائفية كانت ولا تزال محرك الدولة بالمعنى الايجابي كما بالمعنى السلبي.

لم يرض سياسيو لبنان بهذه الطمأنة بل عملوا منذ اقرار اتفاق الطائف على تعطيل تطبيق الفقرة السابعة من البند 2 أ من الاتفاق ومنعوا انتخاب برلمان لا طائفي وانشاء مجلس شيوخ للطوائف، لكونهم يعرفون جيداَ أن الطائفية السياسية هي سلاحهم الجاهز للدفاع عن مصالحهم الضيقة وتهديد لبنان بحرب أهلية صغيرة أو كبيرة كل عقد أو عقدين من السنين. ولعب السياسيون أيضاَ على بنود أخرى في الاتفاق من بينها قانون انتخاب نيابي على أساس المحافظة والانماء المتوازن للمناطق اللبنانية لدعم وحدة الدولة واستقرار النظام. وساعد السياسيين في تحايلهم على الطائف نافذون اقليميون لهم مصالحهم، أو أنهم قليلوا الاهتمام بتفاصيل السياسة اللبنانية.

اليوم، الشعب اللبناني على حافة الجوع والسياسيون الذين يعجزون منذ أشهر عن تشكيل جكومة هم ممثلون شرعيون لهذا الشعب، انتخبهم بملء ارادته، بل لا يزال مستعداَ لانتخاب معظمهم من جديد. هذه الحقيقة لا تحجبها تظاهرات شبابية تعارض الشخصيات الحاكمة والمعارضة، لكنها تعجز الى الآن عن أن تكون بديلاَ لها.

شعب يجوع ولا يجد تعبيراَ سياسياَ واضحاَ عن حاجته للحياة، ولا برنامجاَ واضحاَ لتجاوز الطريق المسدود الذي أوصله اليه سياسيون انتخبهم بحرية. انها المفارقات اللبنانية التي تبدو أشبه بالأحجية أمام انظار اصدقاء لبنان في البلاد العربية وسائر انحاء العالم، فيفضل بعضهم تقديم مساعدات غذائية، ويلجأ البعض الآخر الى اشتراط تشكيل حكومة جديدة ليقدم اليها مساعدات مالية أو ديوناَ بفوائد قليلة.

هذه الاحجية اللبنانية قد تجد تفسيرها في نظام المحاصصة الذي يستند الى حساسيات طائفية يغذيها ويحافظ على وجودها في الحد الأدنى ليستنهضها في الدفاع عن “حصة الزعيم وجماعته” في الوقت المناسب، ويصل الأمر بنظام المحاصصة الى استدعاء قوى سياسية غير لبنانية للتدخل ايديولوجياَ أو سياسياَ أو عسكرياَ، بحيث صار تاريخ لبنان الحديث محطات للحروب الأهلية وصار معظم اللبنانيين أشبه بعينات لقوى كبرى خلف الحدود.

 

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً