قصة “القوات اللبنانية” مع النظام السوري

جورج حايك
جورج حايك

لم تهضم “القوات اللبنانية” يوماً النظام السوري البعثي الذي ترأسه حافظ الأسد ثم نجله بشار، فمنذ السبعينيات أدركت أحزاب “المقاومة اللبنانية” كـ “الكتائب” و”الوطنيين الأحرار” و”حراس الأرز” والتنظيم عدائية هذا النظام، قبل أن تتحد عسكرياً تحت إسم “القوات اللبنانية”. ومن الطبيعي بعد كل ما فعله هذا النظام بلبنان وبشعبه أن تنبذه وخصوصاً أنه لم يتبْ يوماً ولم يغيّر نظرته الى الكيان اللبناني، بل لم يعترف به كدولة مستقلة منذ إعلان حدود لبنان الكبير عام 1920 على الرغم من كل الكلام المعسول عن الأخوّة والجغرافيا والتاريخ، وقد رفض دائماً وبقوّة إقامة علاقات ديبلوماسية محترمة معه، كما امتنع عن إجراء ترسيم للحدود بين البلدين على خلفيّة أطماعه المغلّفة بشعارات مسمومة مثل شعب واحد في بلدين، والخاصرة الرخوة، ووحدة المسار والمصير وغيرها الكثير.

لذلك، من البديهي أن لا تفرح “القوات” بعودة النظام السوري إلى الجامعة العربية، وعلى الرغم من علاقاتها الجيدة مع الدول العربية والخليجية، لها نظرتها المختلفة عنها ولا سيما نتيجة تجارب مع النظام السوري المارق الذي لا يلتزم بتعهداته ووعوده، وغالباً ما يمارس المكر والخداع، علماً أنه لا يتغيّر، وكان بالأمس القريب يرتكب جرائم بشعة بحق شعبه يندى لها جبين البشرية كلها وعلى امتداد عقود عدة، ابتداءً من السياسات المناهضة لحقوق الانسان والاستبداد والقسوة والقمع، مروراً بسياسة التهجير القسري والتغيير الديموغرافي، مع تصعيد إجرامي باستخدام السلاح الكيميائي ومجازر ضد الثوار التي كانت بمثابة جرائم إبادة جماعية وضد الانسانية، ما أدى إلى مئات آلاف القتلى وأكثر منها من الجرحى والمعوقين والمعتقلين في سجونه والخسائر المادية والحضارية الهائلة.

لقد تابعت “القوات” مآسي الشعب السوري وقتله بسلاح نظامه، وهي أكثر من يعرف وحشيته، لذلك تضامنت مع هذا الشعب وشعرت بآلامه، وتعتبر أنّ سوريا لن تستعيد عافيتها قبل أن يرحل النظام القائم. وهي لا تتأثر بإعادته إلى الحضن العربي، لأن مواجهتها له كانت قبل أن تُعلَّق عضويته في الجامعة العربية، لا بل كانت عندما اعتبر بعضهم أنّ دمشق – الأسد هي مدخل العروبة، وعندما كان النظام السوري في أفضل علاقاته مع الدول العربية، ما يعني أنّ منطلقات المواجهة مع هذا النظام لبنانية لا عربية وكانت قبل أن يفقد النظام السوري مقعده في الجامعة العربية وتستمر بعد استعادته هذا المقعد.

ثمة قناعة لدى قيادة “القوات” ومحازبيها بأن هذا النظام لم يتغيّر، حتى بعد خروجه من لبنان نظراً إلى المنطق الديكتاتوري المستبد الذي يتعامل به مع الشعبين اللبناني والسوري، وخصوصاً أن مئات اللبنانيين لا يزالون في سجون هذا النظام، وهو لا يعترف بذلك. ولا بد من التذكير بما فعله النظام السوري في لبنان خلال الحرب اللبنانية بدءاً من العام 1975.

بدأ التدخل السوري المباشر في لبنان بعد حرب السنتين مع الفصائل الفلسطينية، ودخل لبنان مرحلة جديدة قوامها القبول بقوات أمن عربيّة تغطّي بعباءتها الشرعيّة العربيّة القوات السوريّة تحقيقاً لأحلام نظامها الساعي دوماً الى احتلال لبنان وضمّه وتدمير إقتصاده وقضم ظهره وإنهاك مكوّناته وتفتيت طوائفه وشعبه وأحزابه ومناطقه، وبالتالي سورنته، وتحقيق مشروع ما يسمّى “سوريا الكبرى”، الايديولوجيّة التي كان يعمل على ولادتها الحزب “السوري القومي الاجتماعي” الذي أسّسه اللبناني أنطون سعاده عام 1932. لكن هذا المشروع أدخل عليه الرئيس حافظ الأسد تعديلات لجهة استبدال الايديولوجيّة الحزبيّة القوميّة بديكتاتوريّة ترفع لواء العروبة من بوابة الولاء للأسد شخصياً تحت طائلة “صهينة” أي معارض لهذا النهج المستبد. وكم من سياسيين ورجال فكر دخلوا معتقلاته لمجرّد أنهم لم يبايعوه، فكان مصيرهم الموت البطيء في أقبية المخابرات السورية التي كانت منتشرة بين سوريا ولبنان، موجّهاً اليهم اتهامات العمالة لاسرائيل فيما كان السبّاق الى التعامل مع اسرائيل والتنسيق معها في شأن خطواته الاجتياحية للبنان، موهماً بعض الفلسطينيين واللبنانيين بأنه المواجه الأول لاسرائيل تحت شعار جبهة “الصمود والتصدي”.

هكذا تقرّر في مؤتمر القمة العربي السداسي في الرياض في 18 تشرين الأول 1976، وفي مؤتمر القمة العربي في القاهرة في 26 أن تمثّل قوات الردع كل العرب، لكن القوات السورية أمسكت بزمام الأمور وحدها. قبل دخول السوريين تحت راية “قوات الردع العربية”، دخلوا إلى لبنان تحت أسماء عدة (جيش التحرير الفلسطيني، منظّمة الصاعقة، لواء اليرموك، لواء حطين…) وكان لهذه القوى الآتية من سوريا دور مهم ولافت في الحرب اللبنانية ابتداءً من العام 1976، فهي اجتاحت الدامور والسعديات وهجّرتهما ونفّذت الهجوم الشهير على زغرتا وخاضت معارك في المتن الأعلى (بولونيا والمروج وترشيش والمتين…)، اضافة إلى مهمات أخرى نفّذتها على الأراضي اللبنانية.

لكن دهاء الأسد يتمثّل في أنه أقدم على احتلال لبنان، مروّجاً أمام عواصم القرار بأنه يؤدي خدمة جليلة للدفاع عن المقهورين في لبنان من دون تمييز بين الطوائف، أو تغليب أحد على أحد. إلّا أن المشروع السوري أخذ يتوضّح تدريجاً منذ العام 1977 تحت ستار “قوات الردع العربية”، وتحت حجة ترسيخ حكم الرئيس الياس سركيس وإلحاح الرئيس الأسد في مؤتمر القاهرة أن تكون قيادة القوات العربية تحت إمرة الرئيس سركيس وليس إمرة الحكومة اللبنانية. سرعان ما أدرك المسيحيون المنهكون من مواجهات حرب السنتين، على الرغم من الانتصارات التاريخيّة التي حققوها في الشمال وزحلة والجبل وبيروت وضواحيها، أنهم استبدلوا الاحتلال الفلسطيني الطامع بالسوري المحتل.

لقد بات المسيحيون في وضعيّة لا يُحسدون عليها أي بين مطرقة المعسكر الفلسطيني اليساري الاسلامي المدعوم عراقياً وليبياً ومصرياً، وبين سندان معسكر الجامعة العربية وقواتها الرادعة ذات الأكثرية السورية.

انتشرت “قوات الردع السورية” على كامل الأراضي اللبنانية ما عدا جنوب الليطاني، باستثناء وجود رمزي لها على مشارف النبطيّة، وراحت تشدّد الخناق على الصحافة والحرية الفردية والأجهزة الأمنية، وتعتقل الناشطين المجاهرين برفضهم لها، وتلاحق من تراه يشكّل خطراً على ممارساتها، وتنشر مراكزها في الأحياء الآمنة والمستديرات والبنايات العالية والجسور ومداخل المدن والقرى، يرفع جنودها صور “قائدهم الخالد حافظ الأسد” وشعائر “البعث” و”الثورة التصحيحية البعثية” أينما حلّوا، ما جعل اللبنانيين وخصوصاً المسيحيون منهم ينفرون من هذه التصرفات “الأخوية”. وما زاد الطين بلّة هو التعاطي السلبي الذي مارسه الجنود السوريون على الحواجز وقرب مراكزهم وعلى الطرقات مع المواطنين الذين أخذ قسم كبير منهم يترحّمون على الفلسطينيين وأفعالهم المشينة. وتدريجاً، إرتفع حاجز من الشكّ وعدم الثقة والخوف على المصير بين المقاومة اللبنانية والجيش الردعي السوري. ومن يزعم أن الجبهة اللبنانية طالبت بدخول الجيش السوري، نحيله على خطاب للرئيس الأسد في جامعة دمشق عام 1976، إذ أعلن “أن سوريا ولبنان عبر التاريخ بلد واحد وشعب واحد، وهذا الأمر يجب أن يدركه الجميع. من أجل هذا قدّمنا السلاح والذخائر، وقرّرنا أن ندخل تحت عنوان جيش التحرير الفلسطيني، وبدأ هذا الجيش بالدخول إلى لبنان ولم يعرف أحد الاّ عندما أصبح داخل الأراضي اللبنانية. لم نأخذ رأيهم ولم نأخذ رأي الأحزاب الوطنية وغيرها، ولم نأخذ إذناً من أحد!”.

كان قائد “القوات اللبنانية” بشير الجميل أوّل من رفع الصوت عالياً حيال التصرفات العدائية السوريّة، لكن لبنان بات تحت الهيمنة السوريّة، الأمر الذي أدى إلى تململ عربي تجلى بداية في انسحاب الوحدات العربية المشاركة في قوة الردع العربية من جهة، وتململ لبناني بعد المضايقات على يد السوريين خصوصاً بعدما أصبح هذا الجيش فريقاً يناصر الفلسطينيين ضد اللبنانيين من جهة أخرى.

أمام هذا المشهد غير المطمئن، استمرت “القوات اللبنانية” في تحضيراتها العسكرية اقتناعاً منها بأن الأخطار لا تزال تهدّد كيان لبنان ولا بدّ من المواجهة إذا تمادى السوري في أدائه الاحتلالي الاستفزازي. وبدأت المعارك مع السوريين تنتقل من منطقة إلى أخرى: بلّا في الشمال، مواجهة في الفياضية مع الجيش اللبناني، الأشرفية وقائدها البشير، كور في البترون، بريسات وقنات في بشري، وأخيراً زحلة. وفي كل المحطات، كانت “القوات” بالمرصاد، تبذل الشهداء والجرحى والمعتقلين، والثمن المحافظة على منطقة حرّة غير خاضعة للاحتلال السوري وتصميم على تحرير لبنان من هذا الاحتلال الخبيث.

لا شك في أن الاحتلال السوري ومخابراته كان لديهم حلفاء حتى في داخل الساحة المسيحية وتمكّنوا من اغتيال قائد “المقاومة” رئيس الجمهورية بشير الجميل في 14 أيلول 1982، وخرقوا صفوف “القوات” أحياناً من خلال بعض النفوس الضعيفة الطامحة إلى السلطة، لكن سمير جعجع صوّب المسار ووحّد “القوات” وأعاد تنظيمها لتبقى مناطق نفوذها خالية من الاحتلال طوال الثمانينيات.

وعلى الرغم من موافقة “القوات” على اتفاق الطائف عام 1989، وتسليم سلاحها الى الشرعيّة اللبنانية، كانت نيّات النظام السوري خبيثة تهدف إلى الانقضاض عليها “كونها معارضة لمسيرة الانقلاب على الطائف”، فنشط النظام الأمني اللبناني – السوري في تحضير الأرض لملاحقة القواتيين، وارتكب جريمة تفجير كنيسة سيدة النجاة واتهم “القوات” بها، وسرعان ما حلّ الحزب واعتقل رئيسه الدكتور سمير جعجع، ومكث في السجن 11 عاماً، تخللها تعذيب نفسي ووجع كبير نتيجة قمع الحريات السياسية. لكن طلاب “القوات” بقوا ناشطين في النضال، وانضموا إلى طلاب من أحزاب وطوائف أخرى للمطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فكانت ثورة الأرز وتطبيق القرار 1559، وانسحاب القوات السورية وخروج جعجع من السجن.

دخل لبنان في مرحلة جديدة، لكن سوريا بقيادة بشار الأسد لم تتغيّر في ممارساتها الطامعة بلبنان، فدعمت حليفها “حزب الله”، الذي أصبح الوريث للاحتلال السوري من خلال الاحتفاط بسلاحه على الرغم من انسحاب اسرائيل من الجنوب. وتوالت الاغتيالات لشخصيات لبنانية معارضة للنظام السوري و”حزب الله”. وكانت “القوات” ثابتة في مواجهتها السياسية للنظام السوري الذي اتّهم بتفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس، ثم سلّم الوزير السابق ميشال سماحة بعض المتفجرات بقصد إثارة الفتنة. بعدها اندلعت الثورة في سوريا عام 2011، وكان موقف “القوات” واضحاً: تأييد الشعب السوري في ثورته معنوياً وسياسياً انطلاقاً من مبدأ “إنسان واحد، قضية واحدة… في كل زمان ومكان”. لكن وحده “حزب الله” تطوّع لدعم النظام السوري عسكرياً، ليشكّل معه ما يسمّى “محور الممانعة”، وهو محور يعتمد القوة والعنف والحروب المستمرة بهدف تحقيق المشروع الايراني التوسعي. لذلك، “القوات” ليست مقتنعة بتغيّر هذا النظام، ولا يُفهم فتح الجامعة العربية أبوابها أمامه، إلا أنّ المعيار الذي يحكم “العروبة الحديثة” هو القوة والبطش والعنف، وليس العدالة والحرية والانسانية، وهذا ما يجب توضيحه للشعوب العربية عموماً والشعب السوري خصوصاً الذي كان يتوقّع من العرب محاسبة النظام السوري لا تكريمه.

شارك المقال