في الحصار وكسره!

علي نون
علي نون

يغلبني شعور المحاصَر في هذه الأيام. كأنني وسائر اللبنانيين أعيش في كيان مقفل مسوّر من كل الجهات و”العدو” على الأبواب! وشيئاً فشيئاً تتضاءل القدرة على الصمود وتتلاشى، وأنتظر، وننتظر، دكَ تلك الأسوار وحصول المقدّر.

والانتظار أحياناً باب أمل ما، لكن حال اللبنانيين تفيد بأن ذلك الباب مقفل، ومن سرق المفتاح هو الحارس نفسه ولا أحد سواه، ومن حيث يدري (دراية اللص) يأخذ المحاصَرين بجملتهم إلى ترف الأنا في الزمن الغلط! واصطناع البطولات في زمن الجوع! وادعاء الخلاص في ذروة الطريق إلى جهنم! وكأن بيزنطية ليست سوى الاسم الحركي لوطن الأرز، والجغرافيا بينهما خطأً مطبعي وليست مسافة أرضية فاصلة.

وأشياء الحصار قميئة وكريهة وتدمَّر بالتقسيط وعلى الموجة السريعة: يأخذ الشحّ مداه في الأكل والشرب ومتطلبات العيش، ثم يحوّل هذا الناس إلى كائنات متوترة ومهتاجة وباحثة بالمفرد عن سبل نجاة فلا تفعل سوى العبث، ولا تنتج سوى تسريع الانكسار العام .

…بيزنطية سقطت من خارج، لكن لبنان يسقط من داخل. وتلك قهرها عدو غريب ومختلف في الدين والهوية القومية، وهذا يقهره من يدّعي أبوّته وحرصه، وهو الرائد في الخواء والأهواء، وإيثار النفس إلى حدود مرَضية، وهي التي في الأصل أمّارة بالسوء والغلط والشطط، فكيف إذا تواكبت وتآخت مع وعي ملتبس، وطريقة تفكير محكومة بالغرائب والغرائز والهلوسات الأكيدات، ومنطق مقلوب يرى الانحدار صعوداً، والهاوية قمّة، ومآسي الناس سبباً لراحة الضمير، وتشلّع الكيان تثبيتاً للسيادة، وانكسار الدولة إصلاحاً، وتهتّك المؤسسات تغييراً، وتعميم البؤس والفقر استرجاعاً وإحياء للبنان الخمسينيات والستينيات؟!

صاحب هذا العهد هو مشكلة كل بيت لبناني. كان كذلك قبل الوصول، وازدادت وطأته بعد الوصول. والأنكى والأمرّ، أنه يبدو في سباق مع العمر والزمن من أجل تدمير ما تبقى من آثار فترة السماح التي تنعّم بها البلد والناس على مدى خمسة عشر عاماً، عندما كان في المنفى! وعندما كان يجترّ هزائمه، لكن ليس تحضيراً للانتقام من المنتصر بل للركوع أمامه وتلاوة فعل الندامة على ما سلف، ولسان حاله أيضاً: لو كنت أعلم !

صاحب الشأن عندنا يتحسّر على أمرين أكيدين: الأول أن لا انقلابات عسكرية ممكنة في لبنان، والثاني أن لا حزب حاكماً بأمره، يسيطر على الحكم… والباقي إلى جهنم. يتحسّر على تركيبة البلد، وكيف أنه ليس مثل سوريا، مع أن تنوعه شبيه بتنوعها. ويتحسر على فرادة لبنان بين أقرانه وكيف أن إيجابياته كلها هي عنده وبقياساته سلبيات تامات ومكتملات. ويتحسر على تعدد مراكز القوى دينياً وسياسياً فيما الحكم الرشيد يستوجب أحادية تسمح بتحديد اسم الوارث قبل استحقاق الوراثة، ولا تهم نتائج وشواهد مثالات المحسودين من قبله، ولا الكوارث التي أنتجوها ولا البلايا التي أورثوها، بل المهم عنده هو إتمام الأمنية وتحقيق الوصول، وبأي ثمن، وبأي وطن، وبأي مصير، وبأي سيادة، وبأي رخاء.

صاحب الشأن الهرطوقي عندنا لم يكتفِ بالفتك بالدستور والأعراف، بل دفع ويدفع أهل الدستور والأعراف والأصول إلى توسّل ما فيه تماماً، أي تمنّي حصول خطوة غير دستورية لإزاحته من الطريق، ولكسر الحصار، وإغلاق الطرق المفتوحة إلى جهنم عهده وإرثه وتجربته وخليفته!

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً