لبننة الاستحقاق الرئاسي: تمنيات أم ضرورة؟

صلاح تقي الدين

ستة أشهر ونيف مضت على الفراغ الرئاسي ولا تزال المواقف المتباينة للفرقاء السياسيين تعطّل اجتماع النواب لممارسة الدور الدستوري المطلوب منهم وهو انتخاب رئيس للجمهورية، على الرغم من أنهم اجتمعوا “صورياً” 11 مرة بناء على دعوة رئيس المجلس نبيه بري، لكن نواب فريق “الورقة البيضاء” كانوا يعطلون تأمين نصاب الثلثين للدورة الثانية بسبب انسحابهم قبل سماع نتيجة فرز أصوات الدورة الأولى، وهكذا دواليك إلى أن قرر بري عدم الدعوة إلى جلسة “فولكلورية” جديدة قبل تأمين مرشح للمعارضة يواجه مرشح التعطيليين زعيم تيار “المردة” سليمان فرنجية.

لقد وقف فريق السياديين مدعوماً من بعض التغييريين خلف النائب ميشال معوض في مهمة كانت وبانت بعد وقت قصير ولا تزال أنها شبه مستحيلة لا بل انتحارية، بحيث أن عدم تأمين إجماع المعارضين لفريق الممانعة على اسم معوض، جعل نسبة الأصوات التي يحصل عليها في الدورات الانتخابية الأولى تتأرجح صعوداً ونزولاً لكنها لم تبلغ مرة واحدة الحد الأدنى المقبول لاستكمال خوض معركة إيصاله إلى بعبدا.

في المقابل، فإن فريق “الممانعة” كان يستعمل الورقة البيضاء في رسالة واضحة أن الخلاف بين الركنين الأساسيين لهذ الفريق، الثنائي الشيعي و”التيار الوطني الحر”، والذي وصل إلى حد القطيعة، لم يسمح له سوى باستخدام “السلاح الأبيض” أي الورقة البيضاء للتعبير عن عدم الاتفاق أيضاً على مرشح رئاسي يرضيهم مجتمعين بسبب معاندة رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل ومعارضته لفرنجية مرشح الثنائي.

في الخلاصة، فإن الدعوات التي أطلقها بري مراراً ولاقاه في ذلك رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط للحوار والاتفاق على مرشح تسوية، لم تلقَ آذاناً صاغية عند أي من الفرقاء السياسيين بل كانوا في غالبيتهم بكل أسف ينتظرون إشارات من الخارج ليسقط عليهم الاسم الذي يجب أن ينتخبوه رئيساً، هذا ينتظر إيران وذاك ينتظر السعودية وآخرون ينتظرون باريس وواشنطن.

لكن التطورات التي أعقبت الاتفاق الايراني – السعودي برعاية بكين، غيّرت من الأمور وتوقفت الدعوات إلى جلسات الانتخاب بعدما سمع كل الفرقاء رسائل واضحة ومباشرة من رعاتهم بضرورة أن يكون التوافق الداخلي ممراً إلزامياً لانتخاب رئيس للجمهورية أو ما صح على تسميته “لبننة” القرار.

فبعد زيارة وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان إلى بيروت واجتماعه إلى مجموعة من النواب من كتل نيابية مختلفة في السفارة الايرانية، سمع الجميع دعوته إلى أن يكون التوافق الداخلي ممراً إلزامياً للولوج إلى الانتخابات الرئاسية، وشدد في مؤتمر صحافي عقده قبيل مغادرته بيروت على عدم تدخل إيران في شأن لبناني داخلي وعدم وجود أي مرشح لها للانتخابات الرئاسية، ما فسر بأنه عدم التمسّك بفرنجية كمرشح لفريق الممانعة.

إثر ذلك كرّت سبحة التصريحات الدولية التي تدعو إلى “لبننة” الاستحقاق وعدم التدخل في دعم اسم أو مرشح بعينه إلى الانتخابات الرئاسية، فكان لافتاً موقف الناطقة باسم الخارجية الفرنسية التي تنصّلت من دعم فرنسا لفرنجية من خلال الايحاء بعدم وجود مرشح لها في هذه الانتخابات، ثم جاء الموفد القطري إلى لبنان واجتمع إلى المسؤولين وأبلغهم صراحة بعدم جواز القفز فوق إرادة اللبنانيين في اختيار رئيسهم.

ثم كانت الكلمة الفصل للاعب الأهم على الساحتين الاقليمية والدولية في ما يتعلق بلبنان والانتخابات الرئاسية، وهي المملكة العربية السعودية التي كان سفير خادم الحرمين الشريفين لدى لبنان وليد بخاري آخر الواصلين إلى بيروت بعد عطلة الأعياد وانطلاقه في جولة على الفرقاء السياسيين كافة، مشدّداً بعد كل اجتماعاته على أن المملكة لم ولن تتدخل في الأسماء المرشحة للرئاسة، وليس لديها مرشح معين بل على اللبناننين أن يلتقوا على كلمة سواء تسمح لهم باختيار رئيسهم بحرية كاملة.

غير أن كل هذه المواقف الدولية والاقليمية اقترنت بدعوة اللبنانيين إلى الحوار مع التمني بأن يحسنوا اختيار مرشحين يمكنهم التنافس بديموقراطية للفوز بأصوات النواب في البرلمان لكي يكون أحدهم الرئيس الرابع عشر للجمهورية اللبنانية.

على الرغم من أن الرئيس اللبناني المنتخب منذ الاستقلال لم يكن خياراً لبنانياً صرفاً، بل خضع انتخابه دائماً للتدخل أو القبول في أحسن الأحوال بالقرار الخارجي، فقد انتخب بشارة الخوري برضا بريطاني نكاية بفرنسا التي كانت تريد اميل اده، وكميل شمعون انتخب بإرادة عربية وكان يطلق عليه لقب “فتى العروبة الأغر”، أما فؤاد شهاب فجاء بقرار من جمال عبد الناصر، وشارل حلو أيضاً، وفاز سليمان فرنجية بفارق صوت واحد برضا سوري، بينما الياس سركيس اجتمعت الارادة الدولية حوله، وبشير الجميل أتى بقرار دولي واتهم بأنه ركب على الدبابة الاسرائيلية ليصل إلى بعبدا، في حين أن خلفه أمين أصبح رئيساً بفعل هول الفاجعة التي هزت لبنان عقب اغتيال الشيخ بشير، وجاء الرئيس الشهيد رينيه معوض بقرار سوري عربي محض واغتياله لاحقاً أوصل الياس الهراوي بالظروف والقرار نفسه، وكذلك اميل لحود، في حين أن ميشال سليمان انتخب بإرادة عربية جامعة بعد مؤتمر الدوحة، والكل يعرف كيف انتخب ميشال عون الذي تسبب عهده بالانهيار المدمر الذي نعيشه اليوم ويتحمل مسؤوليته وبالطبع الفريق الذي عطل البلد سنتين وخمسة أشهر لايصاله.

والدعوة الى لبننة الاستحقاق الرئاسي اليوم، وإن كانت إقليمية ودولية، إلا أن بعض فرقاء الداخل يصر على أن تكون هذه الانتخابات، وربما للمرة الأولى استحقاقاً لبنانياً صرفاً. لكن ما بين التمني والضرورة، سيقف النواب في البرلمان أمام ضميرهم ليلبوا الدعوة التي أًصبحت ضرورية، فهل ينجحون؟

شارك المقال