الفراغ!

جورج حايك
جورج حايك

يعيش لبنان أزمة سياسية حادة أدت إلى انهيار اقتصادي ومالي غير مسبوق، لذلك يعوّل الشعب على أي مبادرة سياسية محلية أو دولية تساهم في إخراج الاستحقاق الرئاسي من عنق الزجاجة ما يخفف من وطأة الانهيار على حياته اليومية. ومن يتابع المستجدات السياسية لا بد من أن يلاحظ أن ثمة حراكاً ومبادرات، أهمها جولات نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب على القوى السياسية، وما أعلن عنه النائب غسان سكاف عن اقتراب التوصّل إلى مرشّح واحد في جبهة المعارضة، حركة بكركي، زيارة وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبد اللهيان إلى لبنان، جولة السفير السعودي وليد بخاري على القوى السياسية، المبادرة الفرنسية التي تسعى إلى وصول سليمان فرنجية إلى الرئاسة، الاتفاق السعودي – الايراني، وأخيراً زيارة وزير الخارجية القطري محمد بن عبد العزيز الخليفي إلى لبنان.

لكن الوقائع خلف الكواليس تشير إلى أن كل هذه الحركة بلا بركة، ولن تؤدي إلى نتيجة بسبب عمق الانقسام على الساحة السياسية اللبنانية وخصوصاً حول الملف الرئاسي، وعدم نضوج التسوية إقليمياً ودولياً.

فعلياً، يبدو العالم منشغلاً بحروب ونزاعات دموية أكثر من لبنان، وحتماً الأقطاب الكبار مثل الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين لا يزالون منهمكين بالحرب الروسية – الأوكرانية والتوتر حول تايوان بين الولايات المتحدة والصين من جهة، وحرب السودان من جهة أخرى. فهذه القضايا يمكن وصفها بالملحة أكثر، والخريطة الجيوسياسية في العالم تتغيّر حالياً، ولا أحد من هذه الدول يرى مصلحة بالغرق في خلافات القوى السياسية اللبنانية أو حتى إضاعة الوقت عليها الآن. ولعل الموقف الأميركي منذ أسبوع يؤكد على عدم تغيير في السياسة الأميركية حيال لبنان، مكرراً دعوته القيادات السياسية في لبنان الى التحرك بصورة عاجلة لانتخاب رئيس لتوحيد البلاد وإقرار الاصلاحات المطلوبة على وجه السرعة لإنقاذ الاقتصاد من أزمته. هذا الكلام كلاسيكي، ويُترجم دولياً بمستوى تمثيل خجول في اجتماعات الدول الخمس المعنية بالشأن اللبناني، إذ تكلّف هذه الدول ديبلوماسيين ثانويين للبحث في أزمة لبنان، ولا يخرج هؤلاء متفقين حول أي قرار، ويكتفون بالصمت حيناً أو بتوصيات عامة من باب الواجب أحياناً أخرى.

ولا بد من جولة على ما آلت اليه المبادرات الدولية والمحلية بخصوص الاستحقاق الرئاسي حتى الآن:

  • المبادرة الفرنسية: أخطأ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في تقديراته، واستمع الى أشخاص نقلوا له صورة مغايرة عن أرض الواقع، وأوقعوه في فخ الزواريب السياسية الضيقة مع اغراءات لصفقات تجارية ومالية في لبنان، معتمداً على قدراته في التواصل مع “حزب الله”، وهذه نقطة القوة الوحيدة التي يملكها، إلا أن هناك من أخبره بأن قسماً كبيراً من اللبنانيين يريد سليمان فرنجية رئيساً، سرعان ما تبين له العكس تماماً، علماً أنه عندما عرض موضوع ترشيح فرنجية لاقى رفضاً مطلقاً من دول اللقاء الخماسي. وكان الرد الأميركي صادماً، إذ اعتبرت واشنطن أن ماكرون لا يجيد إدارة الملف ويتفرد بطرح أفكار اللبنانيين الذين هم أصحاب القرار أولاً وأخيراً، وإذا كان لا بد من مساعدة اللبنانيين في انتخاب رئيس فلا يجب أن تكون عن طريق فرنسا وحسب، بل بمشاركة كل دول اللقاء الخماسي!

هكذا فشل الفرنسيون في ما كانوا يسعون اليه بهدف ايصال فرنجية إلى قصر بعبدا، ورفعوا الراية البيضاء عندما أصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بياناً تؤكد فيه “أن باريس ليس لديها أي مرشّح رئاسي في لبنان”.

  • حراك بكركي: أثّر بعض المسؤولين السياسيين المسيحيين على أجواء بكركي، ودفعوا البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى أن يسلك طريقاً لا يؤدي إلا إلى الفراغ، فبادر إلى دعوة النواب المسيحيين الـ 64 للقاء حواري للإتفاق على إسم مرشح رئاسي، إلا أن بعض القوى السياسية المسيحية رفض واعتذر من البطريرك على خلفية أن موضوع انتخاب رئيس للجمهورية ليس طائفياً بل يُفترض أن يكون له بُعد وطني ولا يتعلق بأعضاء البرلمان المسيحيين فقط. وبدا واضحاً أن الكنيسةَ فشلت في جمْع النواب سياسياً في بكركي. كذلك كُلِّفَ بعدها راعي أبرشية انطلياس المارونية المطران أنطوان بو نجم القيام بجولات رئاسية، لوضع لائحة مشتركة بأسماء مرشّحين للبحث فيها، لكن تبيّن أن لا أسماء مشتركة وخصوصاً بين “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر”، وسرعان ما استعيض عن تحرك بو نجم بلقاء روحي في بيت عنيا – حريصا من دون أن يُسجّل أي خرق رئاسي. وبدا البطريرك الراعي أخيراً وكأنه أصبح خالي الوفاض من أي مبادرة، مكتفياً بعظات من دون فعالية تختلط فيها الأماني بالنقد اللاذع للمنظومة السياسية.

  • جولات بو صعب: لم تكن حركة بو صعب كما يعتقد البعض، فهو لم يُفوّض من أحد، لا الرئيس نبيه بري ولا أي دولة خارجية، بل أتت بقرار ذاتي لنائب رئيس مجلس النواب المُواكب “اعلامياً”. ربما كان الهدف ايجاد ثغرة في الحائط المسدود عبر تحضير الأرضية لحوار بين القوى السياسية المختلفة والممثلة في البرلمان. لكن شيئاً من هذا الأمر لم يحصل، لأن المعارضة ترفض أي حوار لإنتخاب فرنجية بل حتى ترفض مبدأ الحوار، وتحبّذ الدعوة إلى جلسة انتخاب وممارسة الحق الدستوري بحيث تبقى الجلسات مفتوحة حتى انتخاب الرئيس العتيد.

  • حركة النائب سكاف والمعارضة: لا شك في أن هذا الحراك الذي يتولاه النائب غسان سكاف يبدو الأكثر تقدماً وواقعية، لأن المعارضة، في شتى تكاوينها باتت قاب قوسين من اختيار مرشّح رئاسي واحد تخوض به المعركة الرئاسية، يكون قادراً على كسب 65 صوتاً. إلا أن هذا الحراك الذي لا يزال يحتاج إلى وقت، لن يؤدي إلى انتخاب رئيس، لأن الفريق الآخر الممانع قادر على أن يعطّل الجلسات، وخصوصاً أنه متمسك بمرشحه الرئاسي سليمان فرنجية.

إذاً، لا أمل في الخروج على المدى القريب من الأزمة الرئاسية، وسنكون أمام انتظار طويل ليكتمل التفاهم الخارجي الذي يبدو أنه المدخل الوحيد الى قصر بعبدا.

والتفاهم الخارجي، وفق المفهوم اللبناني، لا يقتصر فقط على لاعبين رئيسين يكفي أن يتفقا حتى يمر الاستحقاق بسلام، انما الخريطة اللبنانية مفتوحة على الحرب الروسية – الأوكرانية وأوروبا ولا سيما الأم الحنون فرنسا ثم الفاتيكان، الولايات المتحدة، إسرائيل، ايران وسوريا، السعودية والعرب. ومع احتدام التطورات ثمة فرضيتان، واحدة للتسوية وواحدة لمزيد من التأزيم، والفرصتان متساويتان، فيما المشهد الرئاسي اللبناني يتأرجح بين كلتيهما وقد يجعل فخامة “الفراغ” المرشح الأول، لكن، هذا الانتظار ليس كغيره من الانتظارات الطويلة السابقة، فهو في ظل الانهيار العظيم، قد يجعل من عهد فخامة “الفراغ” أسوأ العهود التي عرفها الكيان منذ قيامه.

شارك المقال